التّفسير
عندما تصير النّار جنّة:
مع أنّ عبدة الأوثان اُسقط ما في أيديهم نتيجة استدلالات إبراهيم العمليّة والمنطقيّة ،واعترفوا في أنفسهم بهذه الهزيمة ،إلاّ أنّ عنادهم وتعصّبهم الشديد منعهم من قبول الحقّ ،ولذلك فلا عجب من أن يتّخذوا قراراً صارماً وخطيراً في شأن إبراهيم ،وهو قتل إبراهيم بأبشع صورة ،أي حرقه وجعله رماداً !
هناك علاقة عكسية بين القوّة والمنطق عادةً ،فكلّ من اشتدت قوّته ضعف منطقه ،إلاّ رجال الحقّ فإنّهم كلّما زادت قوتهم يصبحون أكثر تواضعاً ومنطقاً .
وعندما لا يحقّق المتعصّبون شيئاً عن طريق المنطق ،فسوف يتوسّلون بالقوّة فوراً ،وقد طبّقت هذه الخطّة في حقّ إبراهيم تماماً كما يقول القرآن الكريم: ( قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ) .
إنّ المتسلّطين المتعنّتين يستغلّون نقاط الضعف النفسيّة لدى الغوغاء من الناس لتحريكهمعادةًلمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم !وكذلك فعلوا في هذه الحادثة ،وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم ،فقالوا: إنّ آلهتكم ومقدّساتكم مهدّدة بالخطر ،وقد سُحقت سنّة آبائكم وأجدادكم ،فأين غيرتكم وحميّتكم ؟!لماذا أنتم ضعفاء أذلاّء ؟لماذا لا تنصرون آلهتكم ؟احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكمإذا كنتم لا تقدرون على أي عملما دام فيكم عرق ينبض ،ولكم قوّة وقدرة .
اُنظروا إلى كلّ الناس يدافعون عن مقدّساتهم ،فما بالكم وقد أحدق الخطر بكلّ مقدّساتكم ؟!
والخلاصة ،فقد قالوا الكثير من أمثال هذه الخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث أنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص ،بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتّى صارت جبلا من الحطب ثمّ أشعلوه فاتّقدت منه نار مهولة كأنّها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السّماء لينتقموا من إبراهيم أوّلا ،وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطّمتها خِطّته وأسقطت اُبّهتها !!
لقد كتب المؤرخّون هنا مطالب كثيرة ،لا يبدو أي منها بعيداً ،ومن جملتها قولهم: إنّ الناس سعوا أربعين يوماً لجمع الحطب ،فجمعوا منه الكثير من كلّ مكان ،وقد وصل الأمر إلى أنّ النساء اللاتي كان عملهنّ الحياكة في البيوت ،خرجن وأضفن تلاًّ من الحطب إلى ذلك الحطب ،ووصّى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب ،وكان المحتاجون ينذرون بأنّهم يضيفون مقداراً من الحطب إذا قضيت حوائجهم ،ولذلك عندما أشعلوا النّار في الحطب من كلّ جانب اشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمرّ فوقها .
من البديهي أنّ ناراً بهذه العظمة لا يمكن الاقتراب منها ،فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها ،ومن هنا اضطروا إلى الاستعانة بالمنجنيق ،فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النّار المترامية الأطراف بحركة سريعة{[2531]} .
ونقرأ في الرّوايات المنقولة عن طرق الشّيعة والسنّة أنّهم عندما وضعوا إبراهيم على المنجنيق ،وأرادوا أن يلقوه في النّار ،ضجّت السّماء والأرض والملائكة ،وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحّد البطل وزعيم الرجال الأحرار .
ونقلوا أيضاً أنّ جبرئيل جاء للقاء إبراهيم ،وقال له: ألك حاجة ؟فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة: «أمّا إليك فلا » إنّي أحتاج إلى من هو غني عن الجميع ،ورؤوف بالجميع .
وهنا اقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربّك ،فأجابه: «حسبي مِن سؤالي علمه بحالي »{[2532]} .
وفي حديث عن الإمام الباقر ( عليه السلام ): إنّ إبراهيم ناجى ربّه في تلك الساعة: «يا أحد يا أحد ،يا صمد يا صمد ،يا من لم يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفواً أحد ،توكّلت على الله »{[2533]} .
كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الأخرى .
وعلى كلّ حال ،فقد اُلقي إبراهيم في النّار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم ،وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح تراباً ورماداً .
/خ70