قوله تعالى:{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ( 52 ) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( 53 ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ( 54 )} .
قوله: ( من رسول ولا نبي ) الواو تفيد المغايرة في المعنى بين المعطوف والمعطوف عليه ؛فيستبين لنا أن كل رسول نبي ،وليس كل نبي رسولا ،وهذا يدل على الفرق بين حقيقة الرسول والنبي .فقد قيل: الرسول: الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومخاطبته له شفاها .أما النبي: فهو الذي يأتيه الوحي إلهاما أو في المنام . وقيل: الرسول: من بعثه الله بشرع وأمره بتبليغه .أما النبي: فهو المأمور أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب .وهما كلاهما لابد لهما من المعجزة .
قوله: ( إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) ( تمنى ) أي اشتهى ورغب فيما يهواه .وقال المفسرون: ( تمنى ) بمعنى تلا .و ( أمنيته ) يعني تلاوته .
وذكر أكثر المفسرين سببا لنزول هذه الآية . لكنه في الحقيقة سبب مريب لا ينبغي قبوله أو الاطمئنان .وهذه قصة معروفة هنا بقصة الغرانيق{[3133]} وهي قصة غريبة تقتضي التكذيب وعدم التصديق البتة وذلك لما نحسب أنها من وضع الزنادقة والماكرين من خصوم هذا الدين .
وجماع القول في سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله ( ص ) بمكة سورة النجم فلما بلغ قوله: ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) قال: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى .قالوا: ما ذكر آلهتنا قبل اليوم فسجد وسجدوا ،فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) الآية .
وفي رواية أخرى أن النبي ( ص ) جلس في ناد من أندية قومه ،كثير أهله .فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه يومئذ فأنزل الله ( والنجم إذا هوى ) فقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) ألقى عليه الشيطان كلمتين: تلك الغرانيق العلا .وإن شفاعتهن لترتجى .ثم مضى بقراءة السورة كلها ثم سجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه .فلما أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال: ما جئتك بهاتين .أو قال له: تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله . فحزن رسول الله ( ص ) وخاف خوفا شديدا فأنزل الله هذه الآية{[3134]} .إلى غير ذلك من مثل هذه الروايات في قصة الغرانيق المصطنعة التي ابتدعها فريق من المارقين المغرضين أولي الهوى مبتغين بذلك إشاعة الشبهة والارتياب في نبوة رسول الله ( ص ) وفي صدق كلامه الذي لا يصدر عن هوى وإنما هو وحي يوحى . إن قصة الغرانيق لا نظنها غير ضرب من ضروب الإفك المفترى على عصمة رسول الله ( ص ) .وذلك بما يشوب عامة الروايات في القصة من شوائب الضعف والاضطراب . وقد طعن فيها كثير من أئمة العلم .فقال الشوكاني: لم يصح شيء منها ،ولا ثبت بوجه من الوجوه .ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه . قال الله ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) وقوله: ( وما ينطق عن الهوى ) وقوله: ( ولولا ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) فنفى المقاربة للكون فضلا عن الركون نفسه .
وقال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي ( ص ) بإسناد متصل .
وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل . ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم .وقال الإمام ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة . وقال القاضي عياض: إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ،لا قصدا ولا سهوا ولا غلطا .
وقال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق ،وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح . وقال البغوي في تفسيره عن هذه القصة: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه .ثم حكى أجوبة عن ذلك من ألطفها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ( ص ) وليس كذلك في نفس الأمر ،بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمان ( ص ){[3135]} .
ويضاف إلى ذلك كله: أن ذكر الغرانيق في هذا الموضع المزعوم من سورة النجم لا يستقيم ولا يتفق ؛فإذ ذكرها هنا يخالف مقتضى الآيات عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى .فهذه أسماء لأصنام جيء بها في السورة بقصد الذم والتنديد بسفاهة المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام الصماء والتي قال الله عنها موبخا مبكتا ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) .
قوله: ( إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) أي إذا تلا وقرأ كتاب الله أوقع الشيطان في مسامع المشركين مثل قصة الغرانيق من دون أن يتكلم بذلك رسول الله ( ص ) ولا جرى على لسانه البتة .وبذلك فإن هذه الآية جيء بها على سبيل التسلية لرسول الله ( ص ) .أي لا يحزنك يا محمد ،فقد أصاب من قبلك من النبيين والمرسلين مثل هذا من الشيطان ليفتن به الناس عن دينهم وليُشيع في نفوسهم الشك .
قوله: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) النسخ معناه الإزالة والإبطال{[3136]} .
أي أن الله يبطل ما يوقعه الشيطان في مسامع الناس ( ثم يحكم الله آياته ) أي يثبتها ويرسخها في قلوب العباد ( والله عليم حكيم ) الله يعلم ما يجري في العالمين وما يدور في بواطن العباد من إنس وجن وملك .وهو كذلك حكيم في تقديره وتدبيره وتصرفه في الكائنات .