قوله تعالى:{وعباد الرحمان الذين يشمون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( 63 ) والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ( 64 ) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ( 65 ) إنها ساءت مستقرا ومقاما ( 66 ) والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يفتروا وكان بين ذلك قواما ( 67 )} .
( وعباد الرحمان ) ،مرفوع لأنه مبتدأ .و ( الذين يمشون ) خبره{[3345]} .
وهذه جملة من خصال المؤمنين وصفاتهم الحميدة التي تميزهم من غيرهم من الفاسقين والمنافقين والسفهاء .وقد سماهم الله بعباد الرحمن ؛لأن تسميتهم بالعباد ووصفهم بالعبودية ،أقصى مراتب التكريم في حق الإنسان ؛فهم عابدون للرحمان منيبون إليه مخلصون في طاعته ،وأول هذه السجايا التي تتجلى في عباد الرحمان هي في قوله: ( الذين يمشون على الأرض هونا ) الهون معناه الرفق واللين .ومنه الحديث:"أحبب حبيبك هونا ما "وكذلك الحديث:"المؤمن هيّن ليّن ".
والمعنى: أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع ؛فهم لا يتبخترون خيلاء ،ولا يمشون مشية المستكبرين المرحين البطرين ،وإنما مشية القصد والاتئاد .وهذه الصفات من أخلاق النبوة .ويجلي هيئة المشي المشروع ما ذكره الرسول ( ص ) من سكينة الذاهب إلى الصلاة ؛إذ قال:"إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وعليكم السكينة ،فما أدركتم منها فصلوا ،وما فاتكم فأتموا ".
وما ينبغي أن يُفهم من ذلك أن عباد الرحمان يمشون متضعفين كالمرضى ،أو متكلفين مرائين .فما هذه مشية المؤمنين المتقين ،وإنما مشيتهم ما بيناه آنفا .وأصدق ما ورد في هذا الصدد ،ما كان من سيرة الرسول ( ص ) في كيفية مشيته ؛فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا مشى كأنما ينحط من صبب{[3346]} وكأنما الأرض تطوى له .
على أن المشي في تصنع وتضعف مكروه .وفي ذلك روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا فقال: ما بالك ؟أأنت مريض ؟قال: لا يا أمير المؤمنين ،فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة .
قوله: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ( سلاما ) ،منصوب على المصدر ،أي تسليما .فسلام في موضع تسليم{[3347]} والمعنى: إذا سفه الجاهلون على المؤمنين بسيء القول وقبحه ،رد عليهم المؤمنون بالسداد من القول ،وهو معنى قوله: ( سلاما ) أي قالوا لهم كلاما يدفعونهم به برفق وتوءدة .وذلك هو خلق المسلمين المتقين ؛إذ يقابلون الإساءة بالإحسان والصفح ،يوردون بالتي هي أحسن السيئة ؛ليكونوا من أهل العفو والفضل والحلم .وليس ذلك عن إحساس بضعف أو خور ولا بهزيمة للنفس من داخلها .ولا بغية التزلف أو تحصيل منفعة من المنافع .ليس العفو من المؤمنين عن الفاسقين والعاصين والسفهاء مبعثه الذل والنفاق والجبن ،بل مردهم من ذلك الاستعلاء على حظ النفس التي تجنح للانتقام .وكل ذلك ابتغاء مرضاة الله .