ما هي الصورة التي يريد الله لعباده أن يتمثلوها في سلوكهم العملي في الحياة وفي أنفسهم ،وعلاقاتهم بالله والآخرين ؟ومن هم هؤلاء الذين اختصهم الله بانتسابهم إليه في كلمة{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} وجعلهم من المقربين إليه ،ووعدهم بجنته في الدار الآخرة ؟
إن هذا الفصل الأخير من السورة يلخص لنا بعضاً من هذه الصفات التي تتنوّع في مواقعها من حياة الإنسان وحركته العملية في كافة جوانبها الروحية والمادية ،وتكسبه ألواناً من الحركة في مواجهة الواقع .
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} بما تعنيه الصفة الإِلهية من معنى الرحمة التي تمثل عمق المعنى في ذاته المقدّسة ،وما توحي به من لطف الله بالإنسان في روحيته وفي حركة حياته ووعيه لوجوده وفي عمق المسؤولية التي تربطه بالله ،وتجعله يتطلّع إلى آفاق الرحمة الإلهية آملاً أن تحتويه بالخير والبركة والتوازن والانضباط في السلوك العملي بين يدي الله .
{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً} فلا يرون المشي حركةً استعراضيّةً ،ولا تنفيساً عن عقدةٍ ذاتيةٍ في انفتاح الذات على شعور العظمة ،على طريقة الخيلاء والتكبّر ،ولكنهم يرونه مجرّد وسيلةٍ طبيعيةٍ للانتقال ،ولذا فإنهم يتحركون فيها بالطريقة الطبيعية التي تحقق الهدف ،من دون زيادةٍ ولا نقصان ،فلا يثقلون الأرض بضربات أقدامهم ،ولا يثقلون على أجسادهم بالزهو والخيلاء ،ولا يسيئون إلى مشاعر الناس الذين يلتقونهم بحركات الكبرياء ،بل يتحركون برفق وتواضع ،في تذلل المؤمن عند نفسه ،وتواضعه للناس .
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} فهم لا ينطلقون مع الناس الذين يثيرونهم بالكلام القاسي اللامسؤول ،من مواقع ردّة الفعل الغريزية التي تتحرك بطريقة الإِثارة ،في مواجهة الكلمة القاسية الغليظة بالكلمة المماثلة في قسوتها وغلظتها ،أو في مقابلة الشتم والسباب ،بكلمات الشتم والسباب المماثل أو غير المماثل ،بل يدرسون المسألة من موقع العقل المتأمّل الواعي المنفتح على الواقع من جميع جوانبه ،فإذا رأوا للموقف خطورةً تستدعي الردّ ،كان ردهم لطيفاً حاسماً ،وإذا لاحظوا أن الجاهلين يتحركونفي كلامهممن مواقع الجهل الذي يتعمد الإثارة ،ليخلق مشكلة ،أو يثير فتنةً ،أعرضوا عن الردّ المباشر وكانت روح السلام الذي يتفادى المشكلة والفتنة والإثارة ،هي موقفهم ومنطقهم ،فاكتفوا بكلمة{سَلاَماً} هذا الردّ العاقل المتزن الموحي الذي يقول للجاهلين لسنا هنا في معرض الانفعال للدخول معكم في حرب ،بل نحن هنا ،في موقع الإِعراض عن جهلكم ،بروح السلام .
وهذه هي الطريقة الحكيمة التي يواجهون بها خطاب الجاهلين ،عندما يحتاج الموقف إلى ذلك ،على سبيل الكناية ،إمساكاً منهم بالموقف وتحقيقاً لمبتغى المصلحة في ذلك .