والاستفهام هنا في قوله:{أحسب الناس} للتوبيخ .و{أَن} والفعل ،في موضع نصب للفعل{أَحَسبَ} وقد سدت أن والفعل مسدّ مفعولي حسب .وأن يقولوا: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ،وتقديره: بأن يقولوا .وقيل: بدل من الأولى{[3538]} ؛فالله يبين لعباده المؤمنين أنه لا بد من ابتلاءهم في حياتهم الدنيا بحسب ما آتوه من درجات الإيمان ،فكل مبتلى بدرجة إيمانه وعزيمته .وبذلك فإن المؤمنين المخلصين الأبرار مبتلون في أنفسهم وأموالهم ومصالحهم بل هم أشد الناس ابتلاء ومواجهة للفتن على اختلافها وتعدد صورها وأشكالها .وفي الحديث الصحيح:"أشد الناس بلاء الأنبياء ،ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل .يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء "جعلنا الله من المخلصين الصابرين الثابتين على الحق .
على أن المراد بالناس في الآية: قوم من المؤمنين كانوا بمكة وكان المشركون يؤذونهم بالغ الأذى ويعذبونهم أشد تعذيب بسبب إسلامهم ،كعمار وأبيه ياسر وأمه سمية وغيرهم من المسلمين المستضعفين الذين جار عليهم الظالمون فنكلوا بهم تنكيلا لاستمساكهم بعقيدة الإسلام ورفضهم عقائد الكفر وملل الضلال والباطل .فنزلت هذه الآية لتواسيهم ولكي تُسرّي عنهم وتكفكف عن نفوسهم وقلوبهم ما كان يعتريها من الألم والمضاضة والاغتمام .
على أن هذه الآية ،وإن نزلت بهذا السبب وما في معناه ،لكنها باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم لينسحب معناها ومقتضاها على المسلمين في كل زمان ؛ذلك أن الفتنة ما فتئت تصيب المسلمين في سائر الأزمان والبلدان ؛تصيبهم في أبدانهم وأموالهم وأرزاقهم وكراماتهم وأوطانهم مما يبتليهم به الله من مختلف البلايا ،أو ما يحيف به الظالمون والطغاة عليهم .أولئك العتاة الغلاظ من مجرمي البشر وشياطين الإنسانية الذين يبطشون بالمسلمين ويتفاخرون بتعذيبهم والتنكيل بهم كلما سنحت لهم الأحوال والظروف ،ليستذلوهم مرة ،أو ليقتلوهم مرة أخرى ،أو يخرجوهم من ديارهم ويستأصلوهم استئصالا في كثير من الأحيان العصيبة التي ألمت بالمسلمين وحاقت بهم ليُشردوا ويُهَجّروا أو يُقتلوا تقتيلا .وقد حصل للمسلمين مثل ذلك في مختلف الأزمان والأوطان ،كالأندلس ،وفلسطين ،وكشمير ،والبوسنة والهرسك وغير ذلك من الأوطان التي ذُبح فيها المسلمون بالكلية أو شردوا وهجروا من ديارهم تهجيرا .