{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} ليس الإيمان كلمةً ليقتصر دور الإنسان على التلفظ بها في التأكيد على صدق إيمانه ،ولكنه فكرٌ يتحرك في عقل الإنسان ،وعاطفةٌ تجيش في قلبه ،وكلمةٌ تعبّر عن موقفه ،وحركةٌ في الخط المستقيم الذي يربط بين البداية والنهاية في ما هو عمق الفكرة وامتدادها في الحياة ،في كيانه ووجوده .
وفي ضوء ذلك ،لا بد من علاماتٍ واضحةٍ ،تدلّ على كل هذه العناصر في ذاته ،في ما هو الجانب الخفيّ من شخصية الإنسان ،الذي لا يظهر إلا بالتجربة الحيّة المتنوعة المتحركة على أكثر من صعيد ،وفي أكثر من أفقٍ ،بحيث تعمل على أن تجرح داخله بالألم والمعاناة ،وتهزّ مواقعه بالكثير من مواطن الاهتزاز ،وتربك خطواته بالعديد من أوضاع التعقيد ،وتثير انفعالاته في أكثر من موقعٍ مثير ،ليكون ذلك كله امتحاناً للعمق الداخلي للإيمان في فكر الإنسان وحركته .
تنوّع التجارب
فهناك التجربة الفكرية ،التي تثير أمامه الشبهات في خط العقيدة وتفاصيلها ،وفي خط الشريعة ومفرداتها ،وفي مناهج الحركة وأساليبها ،في ما يفكر به الآخرون من التيارات الفكرية المضادة والمنحرفة ،وفي ما يرسمونه من علامات استفهامٍ ،تحرّك الشك في الفكر ،وتزرع الاهتزاز في القلب ،وتحوّل الاطمئنان الداخلي إلى قلقٍ مجنونٍ ،لتكون حركته ضائعة بين خطوط الكفر وخطوط الإيمان .
وهناك التجربة العاطفية التي تقترب فيها الانفعالات من إيمانه ،على مستوى الحالة النفسية التي تتحرك من خلال النوازع الذاتية في علاقات الإنسان بأقربائه وأصدقائه ورغباته ،ممّا قد ينحرف به الإنسان عن خط الاستقامة في العاطفة ،فيحبّ من لا يحبه الله ،ويبغض من لا يبغضه الله .
وهناك التجربة الواقعية التي تتحرك فيها المصالح والأَهواء والشهوات الذاتية ،لتعبِّر عن نفسها في الضغوط العملية التي تضغط على المواقف الرسالية وتنحرف بالكثير من المواقع الإيمانية عن الاتجاه الصحيح ،وفي الاهتزازات الحركية التي تمنع الإنسان عن الثبات والتوازن والاستقامة في علاقاته وشؤونه وأوضاعه ،وفي التخطيط المعقَّد الذي يخطط للمشاريع العامة والخاصة في دائرة العُقد النفسية المنطلقة من الارتباكات الداخلية والخارجية المحيطة به .
وهكذا تتحرك كل هذه التجارب في حياته ،لتصنع له أكثر من عاصفةٍ تهز أوضاعه الإيمانية ،فتزلزل عقيدته ،وتضلّل مسيرته ،وتبعده عن أهدافه ..ولتثير في حياته أكثر من عنصر من عناصر الإِغراء التي تفتنه عن دينه ،وتوجهه إلى الخضوع للجانب الغريزيّ في حياته ،ما يوحي بأن إيمانه من صنف الإيمان المستودَع الطارىء لا من صنف الإيمان العميق المستقر .
أما إذا تمرّد على الخضوع لذلك كله ،فاستقام في مواقع الانحراف ،وثبت في مواضع الاهتزاز ،واهتدى في الدروب الضائعة الى مواقع الهدى ،فإنه يؤكد صدق إيمانه ،وقوّة موقفه ،وسلامة خطّه .
الإيمان الشكلي والإيمان الحقيقي
إن مسألة المؤمنين في مسؤولية الإيمان في حياتهم ،هي مسألة السابحين ضد التيّار القويّ الجارف ،فلا يثبت أمامه إلا الأقوياء الذين يملكون فنّ السباحة في الأمواج الهائجة التي تتلاعب بها التيارات ،ويتمتعون بقوّة العضلات التي يستطيعون من خلالها أن يضربوا اندفاع التيار ،ويتلقوا ضرباته ،أمَّا الضعفاء الذين تعوّدوا السباحة في المياه الهادئة ،في مجرى التيار ،واستراحوا لنقاط ضعفهم في شخصياتهم الخائفة وعضلاتهم الخائرة ،فإنهم سوف يسقطون في قلب الأمواج ليدفعهم التيار إلى أعماق البحر .
وهكذا يريد الله أن يقول للذين آمنوا بالكلمة وبالانتماء الشكلي للإسلام ،إن الدخول في الإسلام ليس نزهةً ينتقل الإنسان في أجوائها في الأرض المعشبة الخضراء الزاهية بألوان الورود ،وليس استرخاءً يرتاح فيه الإنسان للخُمول وللكسل ليعيش أحلام اليقظة البهيجة ،أو ليغطّمن خلالهفي نوم عميق ،وليس هروباً من واقعٍ تزدحم فيه مشاكل الحياة ،إلى واقع بعيدٍ عن المشاكل ،بل هو حركةٌ في داخل المعاناة ،ورحلةٌ طويلة إلى الله في الدروب الشائكة والمواقع الخطرة ،حيث يتنقل فيها بين العقبات والصعاب ،في أعماق الوديان ،وفي وعورة الجبال في الليالي المظلمة ،وفي الأيام القاتمة المليئة بالغيوم ،ما يفرض على السائرين معها الكثير من الصبر على الآلام ،والتمرّد على الحرمان ،والاستمرار في السير على الطريق المستقيم ،والتباعد عن الطفيليات النفسية التي تستنزف روحية الإنسان المسلم فتبعده عن الآفاق الروحية في رحاب الله .
وقد يلتقي الإنسان المسلم في ما يلتقي في طريقه إلى الله ،القوى المهيمنة على الواقع كله ،في دوائره الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحاول أن تفرض سيطرتها على المسلمين جميعاً ،وتدعوهم إلى الخضوع لمفاهيمها وللانسحاق تحت إرادتها ،بحيث لا تبقى لهم أيّة إرادةٍ ،وتزرع في نفوسهم مشاعر الخوف والقلق والضياع لتبدّد من داخلهم أيّ شعور بالأَصالة الإسلامية كخطٍّ ثابت يحتوي الإنسان والحياة ،ليعيشوا كهامشٍ جانبيٍّ على امتدادات الطريق للآخرين ،وقد يسقط الكثيرون أمام ذلك ،وقد يبقى البعض منهم متماسكاً متوازناً ثابت القدم ،قويّ العزيمة ،منفتح الروح ،رحب الأفق ..من خلال انفتاحه على الله سبحانه .
وفي هذه الأجواء ،لا بد من دخول الإيمان ساحة الامتحان ،في مواقع فتنة الفكر والروح والجسد ،ليظهر جوهره الأصيل في دائرة الثبات والاهتزاز في حركة الحق والباطل في الحياة .