قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} .
قال المفسرون: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص ،وذلك أنه لما أسلم قالت له أمه جميلة: يا سعد ،بلغني أنك صبوت ،فو الله لا يظلني سقف بيت من الضّح{[3542]} والريح ،ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وترجع إلى ما كنت عليه ،وكان أحب ولدها إليها ،فأبى سعد ،فصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل حتى غُشيَ عليها ،فأتى سعد النبي صلى الله عليه وسلم وشكا ذلك إليه .فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروي عن سعد أنه قال: كنت بارّا بأمي فأسلمتُ ،فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتُعيّرُ بي ويقال: يا قاتل أمه .وبقيت يوما ويوما فقلت: يا أماه ،لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا .فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي .فلما رأت ذلك أكلت .ونزلت{وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} الآية{[3543]} .
وهذه جملة من آيات يأمر الله فيها ببر الوالدين والإحسان إليهما وإسداء الخير والمعروف لهما وطاعتهما تمام الطاعة ما لم يكن في ذلك إثم أو معصية .ولا عجب فإن فضل الوالدين على الإنسان عظيم ،بل إن فضلهما عليه يفوق كل فضل ولا ما كان من فضل الله ؛فإنه يدنو دونه كل فضل .
ويأتي في طليعة الفضل للوالدين على الإنسان: أن الإنسان بعض والديه أو جزؤهما .فهما السبب في وجوده على هذه الأرض .إلى غير ذلك من المشقة والهم والتعب ،من أجل ذلك أعظمَ الله الإيصاء بالوالدين ووجوب طاعتهما والبر بهما ،وأن لا يؤذيا بأدنى مراتب الإيذاء وهو النبس بأفّ .فقال: سبحانه:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}{حُسْنًا}: منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ؛أي وصيناه إيصاء حسنا .وقيل: مفعول لفعل مقدر ،وتقديره: ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا .
قوله:{وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} أي إن بذلا جهدهما في الطلب منك أن تشرك بالله أحدا لا تعلم أنه إله فلا تطعهما في ذلك ؛إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .والمراد بنفي علمه: نفي الشريك لله بالكلية ،فإن ما لا يُعلم أنه إله لا يجوز أن يعبد أو يتبع .ويُلحق بالنهي عن مطاوعة الوالدين في الإشراك: مطاوعتهما في كل المعاصي ؛فإنهما لا يطاعان البتة فيما فيه معصية لله سبحانه .
قوله:{إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} إلى الله معاد الناس ،فهم لا محالة صائرون إلى ربهم يوم القيامة ،وحينئذ يخبرهم الله بما عملوه من طاعات وسيئات ثم يجازيهم على الحسنة بالإحسان ،وعلى السيئة بالعقاب .