/م8
التّفسير
أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين:
إنّ واحداً من أهم الامتحانات الإلهية ،هي مسألة «التضاد » بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة ..والقرآن في هذا المجاليوضح وظيفة المسلمين بجلاء !
في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول: ( ووصينا الإنسان بوالديه ) .
وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي ،ولكن هذه المسألة قبل أن تكون «لازماً » تشريعياً ،لها وجود في فطرة الإنسان بشكل قانون تكويني .وخاصّة أن التعبير ب «الإنسان » هنا يلفت النظر ..فهذا القانون لا يختصُّ بالمؤمنين ،بل كلّ من كان جديراً بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفاً بحق الأبوين ...وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره ..وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما !.
بعد ذلك ،ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمةً على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه ،يأتي استثناء صريحليوضّح هذا الموضوع في الآية ،فيقول تعالى: ( وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ) .
والتعبير ب( جاهداك ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله .
والتعبير ب( ما ليس لك به علم ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك ،لأنّ الشرك لو كان صحيحاً واقعاً لكان عليه دليل بيّن .
وبتعبير آخر: متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه ؟فهذا الإتباع هو اتّباع للجهل ،فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما .
وأساساً فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان ،فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك !.
وهذه الوصية وردتأيضاًفي سورة لقمان مع إضافة ( وصاحبهما في الدنيا معروفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك ،ينبغي عليك احترامهما والإحسان إليهما والإرفاق بهما .
ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما إلى الشرك دليل على جواز الإساءة لهما ،فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين .
وبهذايستفاد من هذا المنطلق أصل كلي: أي إن شيئاً لا يمكن أن يكون حاكماً على علاقة الإنسان بالله ،لأنّها مقدمة على كل شيء ،حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه .
والحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »{[3129]} ...الذي نقل عن أمير المؤمنين علي( عليه السلام ) يعطينا معياراً واضحاً لهذه المسائل !.
ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية ( إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب .
وهذه الجملةفي الحقيقة تهديد لأُولئك الذين يسيرون في طريق الشرك ،والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق ..لأنّها تقول بصراحة: إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم «في معادكم » .
ملاحظة
الإحسان إلى الوالدين:
ليست هذه هي المرّة الأُولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة ،فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية ( 23 ) من قبل ،وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين ( 14 ) و ( 15 ) وسورة الأحقاف الآية ( 15 ) أيضاً .
وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه ،حتى مع كونهما مشركين ،أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر الإسلام ،فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك !.
وهذا في الواقع واحد من الامتحانات الإلهية العظيمة ..التي أشير إليها في بداية هذه السورة ،لأنّهما قد يبلغان من العمر أحياناً يصعب معه تحمّلهما ..فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الإحسان وإطاعة أمر الله ..وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه !.
نقرأ في حديث عن النّبي( صلى الله عليه وآله ) أنّ رجلا جاء إليه فقال: «يا رسول الله ،من أبرّ ؟قال: أمّك: قلت: ثمّ من ؟قال: أمّك .قلت: ثمّ من ؟قال: ثمّ أمّك .قلت: ثمّ من ؟قال: ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب »{[3130]} .
وفي حديث آخروهو وارد في كثير من الكتبأن النّبي( صلى الله عليه وآله ) قال: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات »{[3131]} .فلابدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام .