قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( 14 ) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
يوصي الله بالوالدين في هذه الآية الحكيمة كغيرها من آيات أُخر فيهن توصية للأولاد ببر الوالدين والإحسان إليهما ،وحسن طاعتهما في غير معصية لله .
وذلك هو شأن الإسلام في إكرام الوالدين ،والاهتمام بهما ،وفعل ما يرضيهما ودفع الأذى والمكروه عنهما ،والحرص على كسب رضاهما ؛طلبا لمرضاة الله .لا جرم أن رضى الله مقرون برضى الوالدين .فلا يرضى الله عن ولد عاق لوالديه أو أحدهما .
إن هذه الحقيقة الساطعة البلجة تكشف عن جمال الإسلام ،وإشراق منهجه للبشرية ،وهو يرسخ قواعد الرحمة والمحبة والود في المجتمع .
ويأتي في طليعة ذلك كله طاعة الوالدين على أمثل وأكرم ما تكون عليه الطاعة من تواضع أوفى ،وأدب رفيع جم ،وحياء غامر ودود ،وإجلال مستفيض يتقاطر من خصال الولد وهو يكرم والديه ويمد لهما كامل العون والإحسان .
على أن الترجيح لجانب الأم في كمال الطاعة لها ظاهر ،جزءا مكافئا ،لما بذلته من فرط العناء والحدب والنصب ،وهي ترعى ولدها وتدفع عنه الأذى والسوء .ولشدة ما لقيت في اضطلاعها بهذه الوجيبة من بالغ الحرص والجد والإشفاق عليه بدءا بكونه جنينا مستورا في أحشائها ،وانتهاء باندلاقه إلى الدنيا حيث الإرضاع والعناية والمكابدة المضنية كيما ينمو ولدها ويكبر ويترعرع ومن أجل ذلك فرض الإسلام للأم من عظيم التكريم وبالغ الطاعة والبر ما لم يفرضه لأحد سواها ،ولقد فرض لها ذلك كله مما ليس له نظير في تاريخ الشرائع والعقائد والديانات والملل كافة .ويدل على هذه الحقيقة من الأخبار ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ،من أحقُّ الناس بحٌسن صحابتي ؟قال "أمك "قال: ثم من ؟قال:"أمك "قال: ثم من ؟قال: "أمك "قال: ثم من ؟قال:"أبوك ".
وفي رواية ،قال: يا رسول الله من أحق بحسن الصحبة ؟قال"أمك ،ثم أمك ،ثم أمك ،ثم أباك ،ثم أباك ".
ومن جملة الاهتمام البالغ بالوالدين ،وجوب طاعتهما في المباحات ،ويستحسن ذلك في ترك المندوبات ،والطاعات على غير الأعيان ،مثل الجهاد على الكفاية ،والاستجابة لنداء الأم في الصلاة المسنونة مما يبيح قطع الصلاة ".
قوله:{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}{وَهْنًا} ،منصوب على المصدر .
وقيل: منصوب على أنه مفعول ثان بتقدير حذف حرف الجر .أي حملته أمه بضعف على ضعف{[3647]} والمعنى المراد: أنه أمه حملته في بطنها ضعفا على ضعف وشدة على شدة .فكانت بذلك تزداد كل يوم ضعفا ومشقة وجهدا على جهد .
قوله:{وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} المراد بالفصال ،الفطام ،وقد عبّر عنه بغايته ونهايته وهو الفصال .والمعنى: أن إرضاعه بعد وضعه يستغرق عامين وهي المدة المثلى والأتم للرضاعة .كما قال تعالى:{والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} .
قوله:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}{أنِ} ،في موضع نصب على حذف حرف الجر ،وتقديره: بأن اشكر لي ولوالديك .وقيل: مفسرة بمعنى أي فيكون المعنى: قلنا له أن اشكر لي ولوالديك{[3648]} وذلك بما مننت به عليك من النعم الكثيرة ،وأولها نعمة الإيمان بالله إلها واحدا مقتدرا متفردا بالإلهية والربوبية .أما الشكر للوالدين فبما أفاضا على الولد من نعمة التربية والتنشئة والرعاية والحرص ،ويكون الشكر لهما بمختلف وجوه البر والحدب والإحسان والطاعة في غير معصية لله ،وبالدعاء والاستغفار لهما في حياتهما وعقب الممات .وفي ذلك روى أبو داود والبيهقي أن رجلا من بني سلمة قال: يا رسول الله هل بقي من برّ أبوي شيء أبرهما بعد موتهما ؟قال"نعم: الصلاة عليهما ،والاستغفار لهما ،وإنفاذ عهدهما من بعدهما ،وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ،وإكرام صديقهما ".
قوله:{إلي المصير} الرجوع إلى الله يوم القيامة ،يوم الحساب والجزاء .