قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
ثمة قولان في سبب نزول هذه الآية .أحدهما: أنها نزلت في النضر بن الحارث وذلك أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس ،فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ،ويحدث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام يحدثكم بحديث عاد وثمود ،وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ،فيستملحون حديثه ،ويتركون استماع القرآن .فنزلت فيه هذه الآية .
القول الثاني: إنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشُغل الناس بلهوها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم{[3633]} .
أما المراد بلهو الحديث وشرائه فهو موضع تفصيل نعرض له في هذا البيان فنقول: لهو الحديث يشمل بعمومه كل ما يلهي عن طاعة الله وفعل الخيرات والقربات .وذلك كالغناء والملاهي والأحاديث المفتراة والمصطنعة التي تنشغل بها القلوب والأذهان عن دين الله وطاعته .
وقيل: المراد بلهو الحديث ،الكفر والشرك .وهو قول الحسن البصري ،وروي عنه قول: إنه الغناء والمعازف .
وقيل: المراد من يشتري ذا لهو ،أو ذات لهو .فيكون التقدير: من يشتري أهل لهو الحديث وهم المغنّون والمغنيات والقينات .كقوله تعالى:{واسأل القرية} يعني واسأل أهل القرية .
وقيل: المراد به الغناء .وقد قال بذلك أكثر السلف من الصحابة والتابعين وقد حلف على ذلك عبد الله بن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء .وكان يقول: الغناء ينبت النفاق في القلب .وعن ابن عمر أنه الغناء .وقال الإمام الطبري: أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه .ويؤيد هذا القول ما ورد في ذلك من أخبار .منها ما رواه الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار ،ورنة شيطان عند نغمة ومرح ،ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ".
وروى الترمذي أيضا من حديث علي ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء "فذكر منها:"إذا اتخذت القينات والمعازف "وفيما رواه أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من جلس إلى قينة يسمع منها صُبَّ في أذنه الآنُك{[3634]} يوم القيامة ".
على أن الغناء المنهي عنه هو المعتاد عند المشتهرين به ،والذي يحرك النفوس فيستميلها للذة والطرب ،ويجنح بها للهوى والغزل والمجون بعد سكون الشهوة ورقادها .إلى غير ذلك من الشعر الذي يُشَبَّب فيه بالنساء ووصف محاسنهن والافتتان بهن ووصف الخمور والمحرمات ،فإن ذلك حرام قطعا .أما ما كان من غناء يخلو من ذلك فيجوز منه القليل في بعض الأحوال والظروف كالأعراس والأعياد حيث السرور والبهجة تغمر قلوب الناس في مثل هذه المناسبات .وكذلك عند التنشيط على الأعمال الشاقة مما يروح النفس ترويحا ويكفكف عنها غبار الكد والنصَب .
وذلك كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشه ،وهو أسود كان يسوق الإبل بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وكان حسن الحداء ،وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه .وفي ذلك روى الديلمي عن أنس مرفوعا:"روحوا القلوب ساعة فساعة ".
أما ما ابتدعته الصوفية من سماع المغاني وقد اختلطت بالمعازف وآلات الطرب كالشبابات والمزامير والأوتار فذلكم حرام .
أما الضرب على الدف لإظهار النكاح فمباح .وقال القرطبي في هذا الصدد: إن الطبل في النكاح كالدف ،وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث .
أما الاشتغال بالغناء على الدوام فهو سفه .تُرد به الشهادة وقد ذهب الإمام مالك إلى أن الغناء حرام .ولما سئل عن ذلك قال: إنما يفعله عندنا الفساق .وذهبت الحنيفية والشافعية ،وكذا الحنبلية في رواية لهم إلى أن الغناء مكروه ،وأن سماعه من الذنوب ،ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته .
والذي نميل إليه أن الآية تتناول بعمومها سائر الأقوال والأحاديث التي تلهي عن طاعة الله والتي تشغل البال والقلب عن الخشوع والورع والتذكر ،وسماع المواعظ ودروس العلم .سواء في ذلك الغناء أو قص الأساطير الموهومة بقصد الإلهاء عن سماع الإسلام بأفكاره ومعانيه ،وكذلك اللغو من الكلام الذي يلهي الناس عن سماع القرآن ويضلهم عن الحق ليتيهوا في الباطل .وهو قوله:{ليضل عن سبيل الله} المضل يراد به صاحب اللهو على اختلاف وجوهه فهو بتلهيته يضل الناس عن دين الله فيحول بينهم وبين سماع القرآن والاتعاظ بكلماته وإيقاعاته المؤثرة .أو يلهيهم عن الاستفادة من علوم الإسلام ؛إذ لا يستبقي لهم من الفراغ أو الوقت ما يقرأون فيه أو يسمعون القرآن وروائع الإسلام ،فضلا عن تلهيتهم عن أداء الواجبات والطاعات المفروضة والمندوبة .
وهذا هو دأب الحكام والساسة الذين يقودون المسلمين في عصرهم الراهن ؛إذ يسوسونهم بغير شريعة الإسلام ؛يسوسونهم بشرائع الكفر وملل الضلال والباطل مما ابتدعوه من نظم الحضارة المادية الظالمة .أولئك يصطنعون كل أسباب التلهية من مختلف وجوه اللهو الفارغ الذي تُسخّر لنشره وإشاعته كل الوسائل والأسباب وبخاصة وسائل الإعلام المختلفة ؛وذلك من أجل أن تلتهي الأمة عن الاهتمام بدينها وقيمها ومقوماتها الثقافية والمعنوية والسلوكية ؛وكيما تغض الطرف عن تعاليم الإسلام ولا تعبأ بسماع القرآن ،فضلا عما يبتغيه الساسة الظالمون من إفساد النفس لدى الأفراد وتشويه العقول والتصورات فتزهد في الإقبال على الإسلام كل الزهد أو تنفر منه نفورا .
قوله:{وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} الضمير في{وَيَتَّخِذَهَا} عائد إلى{سبيل الله} والمراد بسبيل الله منهج الحق وصراط الله المستقيم ودينه الحنيف القويم .والمعنى: أن المضل عن سبيل الله بلهوه وضلاله إنما يسخر من دين الله وشرعه ،ويهزأ بالإسلام وما فيه من أحكام وقيم وتصورات .وذلك هو دأب الغاوين الذين يغوون الناس بفسقهم وفجورهم ويضلونهم عن دين الله بما ابتدعوه واصطنعوه من فتن الملاهي والمعازف والغناء الفاجر المستهجن .
قوله:{أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} هؤلاء المضلون الفسّاق الذين يلهون الناس عن دينهم ويضلونهم عن فعل الطاعات والواجبات بما ابتدعوه من لهو فاسد ماجن –صائرون إلى عذاب الخزي والهوان في النار{[3635]} .