{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين ( 6 ) وإذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم( 7 )}
المفردات:
لهو الحديث : كل ما كان من الحديث وكان ملهيا عن سبيل الله مما نهى أو رسوله عن الاستماع إليه واختار ذلك الطبري .
ليضل : ليصد ويمنع .
سبيل الله: دينه الموصل إليه أو كتابه الهادي كله .
هزؤا : يكذب بها أو يستهزئ بها وقد قرأ جميع القراء"هزؤا "إلا حفصا فإنه أبدل من الهمزة واوا مفتوحة على أصل التخفيف .
التفسير:
{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزؤا أولئك لهم عذاب مهين .}
{من الناس}
من يؤثر الباطل على الحق والكفر على الإيمان ويؤثر أحاديث الباطل وأغاني المجون وتحريك الهوى على القرآن والإيمان{بغير علم} ،بأهمية الحق والقرآن والإيمان في سلامة الفرد والمجتمع أو بغير بصيرة حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق جهلا منه بالضلال الذي يسير فيه .
{ويتخذها هزؤا ....} يتخذ آيات الله ووحيه سخرية حيث يكذب بها ويستهزئ بها .
{أولئك لهم عذاب مهين .} هؤلاء أصدقاء الباطل وأعداء الحق لهم عذاب شديد مذل مهين لهم جزاء عنادهم ومكابرتهم .
وقد ذكر جمهور المفسرين أن الآية نزلت في النضر بن الحارث كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم وفي بعض الروايات كتب الأعاجم فيرويها ،ويحدث بها قريشا ويقول لهم إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت هذه الآيات .
ذكر ذلك ابن عطية في تفسيره وابن العربي والقرطبي وابن الجوزي والألوسي والواحدي في أسباب النزول والسيوطي في الدر المنثور مع اختلاف عباراتهم في حكاية ذلك بين التطويل والاختصار .
هل تدل هذه الآية على تحريم الغناء ؟
ذكر الطبري وغيره في تفسير هذه الآية أنها نزلت في قرشي اشترى مغنية شغل بها الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم
وروى الترمذي في سننه ( 5 /346/التفسير ) عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال:"لا تبيعوا القينات ولا تشربوهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام "وفي مثل ذلك نزلت هذه الآية:{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ...} الآية .
قال الترمذي هذا حديث غريب إنما يروي من حديث القاسم عن أبي أمامة والقاسم ثقة ،وعلى بن يزيد يضعف في الحديث .
وقال ابن كثير عن هذا الحديث في تفسيره ( 3/442 ) على وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء والله أعلم .
وقال ابن عطية في تفسيره ( 11/484 ) والذي يترجح أن الآية في لهو حديث مضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله:{ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزؤا ...} وبالتوعد بالعذاب المهين وأما لفظة الشراء فتحتمل الحقيقة والمجاز .أه .
أما الحقيقة فإن النضر بن الحارث كان يشتري كتب الأعاجم وينقل منها حديث رستم واسفنديار ويقول: إن حديثي أحسن حديثا من محمد .
وأما المجاز فالمراد بالشراء هنا الاختيار والاستحسان والترغيب في الباطل حتى يشغل الناس عن القرآن والإسلام قال تعالى:{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} .( البقرة: 16 ) .
وقال قتادة: اشتراؤه: استحبابه ،يختارون حديث الباطل على حديث الحق .
من تفسير القرطبي:
ذكر القرطبي في تفسيره ( 14/54 ) حديث أبي أمامة وآثارا بنحوه في ذم الغناء والتحذير منه ثم قال: ولهذه الآثار وغيرها ،قال العلماء بتحريم الغناء وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس ويبعث على الهوى والغزل ،والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن وذكر الخمور والمحرمات: لا يختلف في تحريمه لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق .
فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح ،كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ،فأما ما ابتدع اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام .
وقد استطرد القرطبي في تفصيل أحكام الغناء والسماع كما فصل الألوسي ذاك أيضا عند تفسيره هذه الآية وأطال فيه . i
من الدر المختار:
التغني لنفسه لدفع الوحشة لا باس به عند العامة ،على ما في ( العناية ) وصححه العيني وغيره وإليه ذهب شمس الدين السرخسي قال: ولو كان فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقا ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقا ومنهم من كرهه مطلقا انتهى كلام الدر .
من تفسير الألوسي:
ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السماع فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت: "دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ."
وفي رواية لمسلم تسجى بثوبه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"دعهما "فلما غفل غمزتهما فخرجتا وكان يوم عيد . ii
والحق أن الغناء الذي لا يحرك الشهوة ولا يحث على الفجور وشرب الخمور يجوز في المناسبات كالعيدين كما ورد في حديث البخاري السابق عن عائشة وكالعرس لما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما علم بزواج قتادة قال:"هلا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم *** فحيونانحييكم
فلولا الحبة السعرا *** ءُ لم نحلل بواديكمiii
وعند التنشيط على القيام بالأعمال الشاقة كغناء وأناشيد أصحاب الحرف والصناعات وكحداء الإبل للصبر على قطع المفاوز واجتياز الصحراء كما يجوز سماع ذلك والله أعلم . iv