مناسبة النزول
ورد في سبب نزول قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} أنها نزلت في النضر بن الحارث ،وذلك أنه كان يخرج تاجراً إلى فارس ،فيشتري أخبار الأعاجم ،فيرويها ويحدّث بها قريشاً ويقول لهم: إن محمداًعليه الصلاة والسلاميحدثكم بحديث عادٍ وثمود ،وأنا أحدثكم بحديث ،رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه ويتركون استماع القرآن ..رواه الكلبي .
الصدّ عن سبيل الله بلهو الحديث
للدعوة مشاكلها في ساحة التحدي المضادّ التي يثيرها الآخرون من الذين يحملون الفكر المضاد ،أو الشعور المضاد .وقد يكون من بين هذه المشاكل ،الوسائل المتنوعة التي تشغل الناس عن الانتباه للداعية ،أو الاستماع إليه ،أو التجاوب معه ،في ما يمكن أن يصرفهم عنه ،من الكلمات والأساليب والأجواء ،ما يجعل الداعية في حرجٍ شديدٍ ومأزقٍ كبير ،لأن المسألة التي تتحداه هي كيف يفتح قلوب الناس وأسماعهم عليه ،ليجتمعوا لديه ويستمعوا إليه ،قبل أن يثير أمامهم القناعات الفكرية والروحية .
وهذا هو ما واجهه النبي محمداً( ص ) في صدر الدعوة ،عندما كان بعض المشركين يصد الناس عن الاستماع لآيات الله في القرآن ،بتقديم الأحاديث المغرية المشوّقة التي تثير التفاصيل الغريبة الملفتة للذهن ،المثيرة للانتباه ،لتجذب أسماع الناس إليه ،وتبعدهم عن الاستماع للنبي محمد( ص ) .
وهذا هو ما نحاول أن نستوحيه من هذه الآيات التي قد تشير إلى هذه الفكرة ،ثم تتجاوزها إلى مجالات أوسع وأكبر من أصناف لهو الحديث ،لتلتقي كل وسائل اللهو من خلال اللحن والكلمة والأسلوب والجوّ والحركة ،لتمنع الناس من الانفتاح على كلمات الله ،بالاستغراق في الساحة اللاّهية العابثة ،في ما يلهو به اللاهون أو يعبث فيه العابثون .
لهو الحديث
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيث} في القصص التاريخية التي تحدثت عن تاريخ الطغاة والمستكبرين الذين قهروا المستضعفين من شعوبهم ،لتعميق عظمتهم في النفوس ،وإثارة الإعجاب بهم في العقول ،مما قد يؤدّي إلى فقدان الأمة الروح المعنوية المتحدية للظلم وأهله وللاستكبار وجنوده ،عندما تنهزم أمام تهاويل التاريخ في حركة الحاضر ،أو في القصص العاطفية أو الخلاعية التي تثير في الداخل لهيب الغرائز وفحيح الشهوات ،لتنحرف بالعاطفة الإنسانية إلى الأجواء المنحرفة التي يقدس فيها الإنسان الشهوة المحرّمة والغريزة الجامحة ،بالطريقة التي ينسى معها ربّه ودينه ورسالته ومسؤوليته واهتماماته المصيرية في الحياة ،ويفقد في داخلها روح الطهارة في الشعور ،وصفاء الروح في التأمّل ،ونقاء الإحساس في القلب ،لتتحول الحياة عندها إلى وحلٍ غريزيّ يغرق فيه الحاضر والمستقبل ،أو في الألحان اللاهية العابثة المثيرة للطرب الذي يهز المشاعر حتى تفقد توازنها واستقلاليتها واختيارها في ما تريد وما لا تريد ،أو في الأوضاع الصاخبة التي تدفع إلى الجنون في الإحساس ،والصخب في الانفعال ،والتوتر في المشاعر ،وتثير الضباب الذي يفقد معه الوضوح في داخل الإنسان ،أو في الأفلام والمشاهد الخليعة المثيرة التي تحتوي الكيان الإنساني في عملية استلابٍ للعقل وللتركيز والتوازن في الشعور .
وكلمة الشراء في قوله «يشتري » لا يراد منها معناها الحرفي بل معناها الكنائي الذي يعبّر عن الوسيلة التي يحصل بها على هذا النوع من لهو الحديث .
{لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} الذي يقود الناس إلى الله في الفكر والشريعة والمنهج والطريق والغاية ،فيكون اللهو المتنوّع في الكلمة واللحن والجوّ والحركة والشكل والمضمون ،وسيلة من وسائل الإضلال من خلال انشغال الإنسان بها عن الرسالة والمصير ،أو من خلال اختزانه للمشاعر والأفكار المضادّة ،أو تحريكه للنوازع المنحرفة ،أو تحضيره للأجواء المعقّدة البعيدة عن مواقع الشروق وينابيع الصفاء ،{بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} لأن مسألة هؤلاء الذين يعملون على إضلال الناس ليست مسألة العلم الذي يرتكزون عليه في مضمون حركتهم وخط فكرهم ،لأنهم لم ينطلقوا في ذلك من مواقع القناعة العلمية المرتكزة على الدليل ،بل من التخلف القائم على الجهل المتحرك في تقليد الآباء الذين لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ،ومن الأطماع الذاتية ،والمصالح الشخصية والامتيازات الطبقية التي تحكم كل مواقف التأييد والرفض ،للأشخاص وللأفكار وللأهداف .
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} في الدار الآخرة ،لأنهم حاربوا الله في كتابه ودينه من دون أساسٍ من عقل ،ولا حجةٍ من علم ،فكان موقفهم عدوانياً في شكله ومضمونه ،فاستحقوا العذاب المهين الذي يتناسب مع حقارتهم الروحية والعملية .
علاقة الآية بتحريم الغناء ،وحدوده
وإذا كانت بعض الأحاديث المأثورة قد فسّرت لهو الحديث بقصص الأكاسرة والجبابرة ،أو بالغناء ،فإن الجوّ الذي تتحرك به الآية أوسع من ذلك ،فهي تتحرك في خط النتائج العملية لما يقدمه هؤلاء من أحاديث يحاولون من خلالها إشغال الناس عن كلمات الله وعن دينه ،ما يجعل القضية المرفوضة والإنذار بالعذاب في نطاق السلوك الذي يتحرك فيه هؤلاء الناس ،من خلال الهدف الشرّير ،بعيداً عن طبيعة المضمون الذاتي للأحاديث ،لأن نقل قصص الماضين من الطغاة والجبابرة ليس محرّماً في ذاته ،ما لم يؤكد غايةً محرمة في حركته ،كما أن اعتبار الغناء مصداقاً من مصاديقه أو تفسيراً من تفاسيره ،يوحي بأن المراد به المضمون الغنائي الذي يدفع إلى الإضلال ،أو اللحن الغنائي الذي يثير المشاعر المنحرفة المملوءة بالإغراء والإغواء ،فيؤدي إلى الضلال في الأخلاق وفي السلوك ،فإن ذلك هو الذي يتناسب مع جوّ الآية ومعناها .
أمّا الغناء الذي يتضمن الإيمان والخير والزهد والحديث عن القيم الروحية والأخلاقية ،فإنه لا يندرج تحت هذه الآية ،لأنه يقود إلى الهدى ،ويبعد عن الضلال .وهكذا تكون النظرة إلى اللحن الغنائي الذي ينساب في المشاعر بإيحاءات الصفاء والسموّ والطهارة ،ويبعث على هدوء الأعصاب ،وإزالة التوتّر ،وانفتاح الروح على آفاق الفرح الروحي في محبة الله ،فإن مثل هذا اللحن الذي يهذّب الروح ،ويروّض الغريزة ،ويهدّىء مشاعر القلق الحائر المجنون ،يدفع الإنسان إلى الخير والنقاء والهدوء والصفاء ،بدلاً من الضياع والشرّ والجنون ،ما يجعل من انطباق الآية على مورده ،وسيلة لتحديد الحرام في دائرةٍ ضيقةٍ لا تتسع لذلك .