قوله:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} البغي معناه الظلم والتعدي وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء فهو بغي{[4113]} وهذه واحدة أخرى من صفات المؤمنين الراسخين في العقيدة والإيمان وهي العزة والاستعلاء على الباطل والمبطلين .وعلى هذا إذا أصابهم من المشركين ظلم أو عدوان انتصروا منهم لأنفسهم ولم يستيئسوا أو يهنوا أو يذعنوا للذل والاستكانة والضعف وغير ذلك من وجوه الاستسلام والخور التي تنافي عقيدة الإسلام وأخلاق المسلمين الصادقين ؛فقد بغى المشركون الظالمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين معه إذْ آذوهم وأخرجوهم من وطنهم فمكّن الله لهم في الأرض تمكينا ثم أذن لهم بقتال الظالمين لبغيهم عليهم وانتصارا لأنفسهم منهم .وهو قوله:{أُذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا} .
ويفهم من ذلك أن يكون المسلمون أقوياء في أنفسهم .أقوياء في عقيدتهم وكل مقوماتهم النفسية والروحية والعلمية والمادية ؛كيلا يكونوا عاجزين ولا مقهورين ولا مستذلين للطغاة والكافرين ؛بل قادرين على الانتقام ممن بغى عليهم من الكافرين الظالمين .
على أن المسلمين إذا جنحوا للعفو والصفح عمن بغى عليهم وكان فيهم القدرة على الانتقام من الظالم المعتدي ،فلا جناح عليهم في ذلك بل إن ذلك من شيم المؤمنين الأقوياء الأعزاء .وذلكم هو العفو عند المغفرة .وهو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الأنام وخير من حملت الغبراء على متنها من أبرار أفذاذ عظام ؛فقد كان عليه الصلاة والسلام يعفو عمن أساء إليه مع قدرته على الانتقام منه .ومن جملة ذلك: أنه عفا عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم مَنَّ عليهم مع قدرته على الانتقام منهم .وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث ،الذي أراد أن يفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في يده صلتًا{[4114]} فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه .وكذلك عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية – وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة .وكانت هذه المرأة قد وضعت السمّ في ذراع شاة قُدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ،فأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم:"ما حملك على ذلك ؟"قالت: أردت إن كنت نبيًّا لم يضرك وإن لم تكن نبيًّا استرحنا منك .فأطلقها عليه الصلاة والسلام .ولكن لما مات منه بشر بن البراء ( رضي الله عنه ) قتلها به .إلى غير ذلك من وجوه العفو عن الباغين والمعتدين كيفما تكن أوجه الاعتداء ما دام المسلمون العافون قادرين على الانتقام منهم{[4115]} .