قوله تعالى:{ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين 15 أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون} .
هذه آيات بينات يوصي الله فيهن بالوالدين إحسانا .وفي ذلك من بالغ التكريم والتعظيم للآباء والأمهات ما ليس له في الملل والعقائد والفلسفات نظير .وذلكم هو القرآن الحكيم بآياته العجاب ،وإعجازه الباهر ،وأسلوبه المميز الفذ ،يحرض على الاهتمام بالوالدين ،ببذل الخير والتبجيل لهما ،ودفع الأذى والشر وكل وجوه الإساءة عنهما ،وذلك ليتبوأ الوالدان في كنف الأولاد خير منزلة من منازل الاحترام والإكرام والتقدير: وأيما إساءة بعد ذلك أو بذاءة من لسان أو إهانة لأحدهما أو كلاهما فإنه فسق عن دين الله وعصيان لرب العباد .
وتكريم الوالدين يأتي في ذروة العبادات التي يتقرب بها العبد من ربه ،وذلك بجم التواضع لهما وعظيم الإحسان إليهما وأرقى الدرجات من التأدب في مخاطبتهما .وإذا لم يكن المرء مع أبويه كذلك فيوشك حينئذ أن يهوي بنفسه في جهنم .وذلكم قوله سبحانه:{ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا}{إحسانا} منصوب على المصدر ،وتقديره: ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إحسانا{[4207]} فقد أمر الله الإنسان أن يحسن إلى والديه بالحنو عليهما والرأفة بهما وبتكريمهما .وفي سبب نزول هذه الآية روى أبو داود عن سعد ( رضي الله عنه ) قال: قالت أم سعد لسعد: أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ؟فلا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى ،فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا .ونزلت هذه الآية .
قوله:{حملته أمه كرها ووضعته كرها} حملت الأم ولدها جنينا في بطنها في مشقة ووضعته لدى الولادة في مشقة ،وفي ذلك من شديد العسر والكرب والإيلام على الأمهات ما لا يخفى .ويراد بذلك ،التذكير بعظيم فضل الأم على ولدها لكي يحسن إليها ويحدب عليها بالغ الحدب وأن يبذل لها من وجوه التعظيم والاحترام ما يولجه في زمرة المؤمنين الصادقين .
قوله:{وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} أي أن مدة حمل الإنسان في بطن أمه ومدة فصاله وهو فطامه من الرضاع{ثلاثون شهرا} وبذلك فإن ثلاثين شهرا هي المدة من عند ابتداء الحمل إلى أن يفصل من الرضاع ،أي يفطم عنه .
ويستدل بهذه الآية على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر ،لأن مدة الرضاع الكامل سنتان لقوله سبحانه:{يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أ ن يتم الرضاعة} قال ابن عباس في ذلك ،إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا .وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا .وروي أن عثمان قد أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحد فقال له علي ( رضي الله عنه ): ليس ذلك عليها .قال الله تعالى:{وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال تعالى:{والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} فالرضاع أربعة وعشرون شهرا ،والحمل ستة أشهر .فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها .
قوله:{حتى إذا بلغ أشده} الأشد ،واحد جاء على بناء الجمع .وقيل: هو جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل ومذاكير{[4208]} .والأشد ،هو تناهي قوة المرء واختلفوا في مدة الأشد .فقد قيل: ثلاث وثلاثون سنة .وقيل: الحلم .وقيل: ثماني عشرة سنة{وبلغ أربعين سنة} وذلك تناهي عقل الإنسان واكتمال فهمه وحلمه وتدبيره .
روى الحافظ أبو يعلى بإسناده عن عثمان ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه .وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ،وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء ،وإذا بلغ ثمانين سنة ثبّت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ،وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ،وشفّعه الله تعالى في أهل بيته وكتب في السماء أسير الله في أرضه ".
قوله تعالى:{قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي} إذا بلغ المرء سن الأربعين وفيها يكتمل الفهم والتدبير والإرادة – دعا ربه أن ألهمني شكر نعمتك علي وعلى والدي بالهداية والتوفيق وغير ذلك من وجوه النعم .
قوله:{وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي} يعني وألهمني أن أعمل الصالحات التي ترضاها وأصلح لي أموري في ذريتي بأن تجعلهم صالحين مهديين عاملين بشرعك ،مبتغين مرضاتك .
قوله:{إني تبت إليك وإني من المسلمين} أي تبت إليك من ذنوبي التي سبقت مني في سالف أيامي وإني من المستسلمين لأمرك الخاضعين لك بالطاعة والإذعان .