التّفسير
أيّها الإنسان أحسن إلى والديك:
هذه الآيات والتي تليها ،توضيحفي الحقيقةلما يتعلق بالفريقين: الظالم والمحسن ،اللذين أشير إليهما إجمالاً في الآيات السابقة .
وتتناول الآية الأولى وضع المحسنين ،وتبدأ بمسألة الإحسان إلى الوالدين وشكر جهودهم وأتعابهم التي بذلوها ،والذي يعتبر مقدمة لشكر الله سبحانه ،فتقول: ( ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً ){[4384]} .
«الوصية » و«التوصية » بمعنى مطلق الوصية ،ولا ينحصر معناها بالوصايا بما بعد الموت ،ولذلك فسّرها جماعة هنا بأنّها الأمر والتشريع .
ثمّ تطرّقت إلى سبب وجوب معرفة حقّ الأُمّ ،فقالت: ( حملته أُمّه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) تضحي خلالها الأُم أعظم التضحيات ،وتؤثر ولدها على نفسها أيّما إيثار .
إنّ حالة الأُم تختلف منذ الأيّام الأولى لانعقاد النطفة ،فتتوالى عليها الصعوبات ،وهناك حالة تسمى حالة ( الوحام ) هي أصعب الحالات التي تواجهها الأُم ،ويقول الأطباء عنها: إنّها تنشأ نتيجة قلّة المواد التي تحدث في جسم الأُم نتيجة إيثارها ولدها على نفسها .
وكلما تكامل نمو الجنين امتص مواداً أكثر من عصارة روح الأُم وجسدها ،تترك أثرها على عظامها وأعصابها ،فيسلبها أحياناً نومها وغذاءها وراحتها وهدوءها ،أمّا في آخر فترة الحمل فيصعب عليها حتى المشي والجلوس والقيام ،إلاّ أنّها تتحمل كلّ هذه المصاعب بصبر ورحابة صدر وعشق للوليد الذي سيفتح عينيه على الدنيا عمّا قريب ،ويبتسم بوجه أُمّه .
وتحل فترة وضع الحمل ،وهي من أعسر لحظات حياة الأُم ،حتى أنّ الأُم أحياناً تبذل نفسها وحياتها من أجل سلامة الوليد .
على كلّ حال ،تضع الأُم حملها الثقيل لتبدأ مرحلة صعبة أُخرى ،مرحلة مراقبة الطفل المستمرة ليل نهار ...مرحلة يجب أن تلبى فيها كلّ احتياجات الطفل الذي ليست لديه أية قدرة على بيانها وتوضيحها ،فإن آلمه شيء لا يقوى على تعيين محل الألم ،وإذا كان يشكو من الجوع والعطش ،والحر والبرد ،فهو عاجز عن التعبير عن شكواه ،إلاّ بالصراخ والدموع ،ويجب على الأُم أن تحدد كلّ واحدة من هذه الاحتياجات وتؤمنها بتفحصها وصبرها وطول أناتها .
إنّ نظافة الوليد في هذه المرحلة مشكلة مضنية ،وتأمين غذائه الذي يستخلص من عصارة الأُم ،إيثار كبير .
والأمراض المختلفة التي تصيب الطفل في هذه المرحلة ،مشكلة أُخرى يجب على الأم أن تتحملها بصبرها الخارق .
إنّ القرآن الكريم عندما تحدّث عن مصاعب الأُم هنا ،ولم يورد شيئاً عن الأب ،لا لأنّه لا أهمية للأب ،فهو يشارك الأُم في كثير من هذه المشاكل ،بل لأنّ سهم الأُم من المصاعب أوفر ،فلهذا أكّد عليها .
وهنا يطرح سؤال ،وهو: إنّ فترة الرضاع ذكرت في الآية ( 233 ) من سورة البقرة على أنّها سنتان كاملتان24شهراً: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) في حين أنّ الآية مورد البحث قد ذكرت أنّ مجموع فترة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً ،فهل من الممكن أن تكون مدّة الحمل ستة أشهر ؟
لقد أجاب الفقهاء والمفسّرون ،عن هذا السؤالاستلهاماً من الرّوايات الإسلاميةبالإيجاب وقالوا: إنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر ،وأكثر مدّة تفيد في الرضاع ( 24 ) شهراً ،حتى نقل عن جماعة من الأطباء القدامى كجالينوس وابن سينا أنّهم قالوا: إنّهم كانوا قد شاهدوا بأُمّ أعينهم وليداً ولد لستة أشهر .
ثمّ إنّه يمكن أن يستفاد من هذا التعبير القرآني أنّه كلما قصرت فترة الحمل يجب أن تطول فترة الرضاع بحيث يكون المجموع ( 30 ) شهراً .
وقد نقل عن ابن عباس أنّ فترة الحمل إن كانت ( 9 ) أشهر فيجب أن يرضع الولد ( 21 ) شهراً ،وإن كان الحمل ستة أشهر وجب أن يرضع الطفل ( 24 ) شهراً .
والقانون الطبيعي يوجب ذلك أيضاً .لأنّ نواقص فترة الحمل يجب أن تجبر بفترة الرضاع .
ثمّ تضيف الآية: إنّ حياة هذا الإنسان تستمر ( حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة ){[4385]} .
يعتقد بعض المفسّرين أنّ بلوغ الأشد منسجم مع بلوغ الأربعين سنة ،وهو للتأكيد ،إلاّ أنّ ظاهر الآية هو أنّ بلوغ الأشد إشارة إلى البلوغ الجسمي ،وبلوغ الأربعين سنة إشارة إلى البلوغ الفكري والعقلي ،لأنّ من المعروف أنّ الإنسان يصل إلى مرحلة الكمال العقلي في سن الأربعين غالباً ،وقالوا: إنّ أغلب الأنبياء قد بعثوا في سن الأربعين .
ثمّ إنّ هناك بحثاً في أنّ بلوغ القدرة الجسمية في أي سن يتم ؟فالبعض يعتبره سن البلوغ المعروف ،والذي أشير إليه في الآية ( 34 ) من سورة الإسراء في شأن اليتامى ،في حين صرّحت بعض الروايات بأنّه سن الثامنة عشرة عاماً .
طبعاً ،لا مانع من أن يعطي هذا التعبير معاني مختلفة في موارد مختلفة تتّضح من خلال القرائن .
وقد ورد في حديث: «إنّ الشيطان يمر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ،ويقول: بأبي وجه لا يفلح »{[4386]} .
ونقل عن ابن عباس: من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شرّه ،فليتجهز إلى النّار .
وعلى أي حال ،فإنّ القرآن الكريم يضيف في متابعة هذا الحديث: إنّ الإنسان العاقل المؤمن إذا بلغ سن الأربعين ،يطلب من ربّه ثلاث طلبات ،فيقول أولاً: ( قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي ){[4387]} .
إنّ هذا التعبير يوحي بأنّ الإنسان يدرك في هذه السن عمق نعم الله سبحانه وسعتها ،وكذلك يدرك ما تحمله أبواه من الجهود المضنية حتى بلغ هذا المقدار من العمر ،وذلك لأنّه غالباً ما يصبح في هذا العمر أباً إن كان ذكراً ،وأمّاً إن كانت أنثى ،ويرى بأُم عينه كلّ تلك الجهود التي بذلت من أجله ،ومدى الإيثار الذي آثره أبواه في سبيله ،وشكراً لسعيهما يتوجّه لا إرادياً لشكر الله سبحانه .
أمّا طلبه الثّاني فهو: ( وأن أعمل صالحاً ترضاه ) .
وأخيراً يقدم طلبه الأخير فيقول: ( وأصلح لي في ذريتي ) .
إنّ التعبير ب( لي ) يشير ضمنية إشارة إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه .
والتعبير ب ( في ذريتي ) بصورة مطلقة ،يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته .
والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل ،وأولاده في الدعاء الثالث ،أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به ،وهكذا يكون الإنسان الصالح ،فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين ،ينظر بالأُخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته .
وتبيّن الآية في نهايتها مطلبين ،كلّ منهما تبيان لبرنامج عملي مؤثر ،فتقول: ( إنّي تبت إليك ) فقد بلغت مرحلة يجب أن أعين فيها مسير حياتي ،وأسير في ذلك الخط ما حييت .
نعم ،لقد بلغت الأربعين ،ويقبح بعبد مثلي أن يأتيك ولم يغسل نفسه بماء التوبة ،ولم يطهرها بالعودة إلى طريق ربّه ويقرع باب رحمته .
والآخر: ( وإنّي من المسلمين ) .
إنّ هاتين الجملتين تأكيد لتلك الأدعية الثلاثة ومترتبة عليها ،ومعناهما: بما إنّي تبت إليك ،وأسلمت لأوامرك ،فأنت أيضاً منّ عليّ برحمتك ،واشملني بنعمك وفضلك .
/خ16