تتناول هاتان الآيتان ،ومن خلال نماذج بشرية محدّدة ،كيفية تعاطي المحسنين والظالمين مع الوالدين ،كشكلٍ من أشكال العلاقات التي يبنيها الإنسان في حياته ،فهناك من ينفتح على الله وعلى أجواء الصلاح في علاقته بهما ،ليبقى معهما في خطّ الصلاح في شبابه ،كما كان كذلك في طفولته ،وهناك من ينغلق عن الله ويصمّ أذنيه عن سماع ندائهما الذي يدعوه إليه .
ونقف مع النموذج الأوّل الذي تحدثت عنه هذه الآيات ،وهو نموذج البرّ بالوالدين ،وعن الواقع الذي يتحرك في دائرته .
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أن يحسن إليهما ،وأن يتطلع ،بعمقٍ وانفتاح وإنسانيّةٍ ،إلى الجهد الذي بذلاه في تربيته ،بما لا يبذله أحدٌ معه ،ولا يقدّمه إليه إنسانٌ ،لا سيّما الأمّ التي تتحمل الجهد الجسدي الشاق في حمله وولادته ورضاعه ،{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} فكان حملها له مشقة ومعاناة ثقيلة تواجه فيها حالة صحيّة صعبة ،حيث يتغير مزاجها ويضطرب وضعها الجسدي بكل أجهزته ،وكانت ولادته حركة آلام قاسية في مكابدة الجهد والخطر على الحياة ،ولكنها بالرغم من حالة الكره الطبيعي للإحساس الجسدي بالثقل والألم والمعاناة ،تتقبل ذلك كله ،بالرضى والحنان والعاطفة ،فتحتضن ولدها بالعاطفة الدافقة الطاهرة ،وتستمر في رعايته في حمله ورضاعه ،{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} أي فطامه عن الثدي بانتهاء حاجته إلى الرضاع بعد عامين ،يعقبان أقل مدة الحمل ،وهي ستة أشهر ،التي قد تزيد إلى مرحلة التكامل الطبيعي في تسعة أشهر ،ومجموع ذلك{ثَلاَثُونَ شَهْراً} من الرعاية الكاملة المميّزة بالانفتاح الروحي العاطفي ،وبالجهد الجسدي .
وتستمر الرعاية مدّة طويلةً{حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} عندما تشتد قواه{وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} وهي المدة التي يقوى فيها جسده ،ويكمل عقله ،وتهدأ فيها شهواته ،وتتوازن فيها انفعالاته ،وبدأ يتطلع إلى نعمة الله عليه في حركة وجوده ،بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة ،{قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى والِدَيَّ} أي اجعلني أعيش وعي النعمة ،إلهاماً روحياً ،يلزمني بمسؤولية الشكر لك قولاً وفعلاً يلتزمان سبل ومواقع وغايات رضاك ،وبما يحولها إلى طاقةٍ حيّةٍ منفتحةٍ على مواقع القرب منك والحب والصدق لك ،{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} ،فالإيمان بالله والاعتراف بنعمته يفرض عملياً على الإنسان الذي يتطلع للحصول على رضاه ،أن يؤدي في حياته العمل الصالح ،وأن يربي أولاده من بعده على الإيمان والعمل الصالح .
{وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيَّتي} ووفِّقهم إلى العمل الصالح ،وإلى الروحية التي تجعل الصلاح حالةً عميقةً داخل نفوسهم وخط سير وممارسة ،ونهجاً في الفكر والعلاقات ،ليشكّلوا الوجود الفاعل داخل المجتمع الصالح ،والتمرد على المجتمع الفاسد .هذا هو الطموح الإيمانيّ الذي يعيشه المؤمن كأب في نظرته إلى الذرية ،من حيث كونها امتداداً للوجود في المستقبل ،فليست مجرد حاجةٍ ذاتيةٍ يزهو بها الإنسان ،بل هي شعور بالمسؤولية في امتداد الصلاح في أولاده ،من خلال مسؤوليته عن خط الصلاح في حياته .وبذلك تمتزج نزعة الإنسان الغريزية في حبّ الأولاد كحاجةٍ ذاتية ،بالنظرة الرسالية للدور الذي يريد لهم القيام به في الحياة من بعده .
{إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ} من كل المعاصي التي عملتها ،ومن كل خطوط الانحراف التي سرت فيها ،توبة العقل من كل ما لا يرضيك من فكرٍ ،وتوبة القلب من كل ما يسخطك من عاطفة ،وتوبة الموقف من كل ما يبعدني عن خطّك المستقيم ،ومن كل تخطيط لا تريده للمستقبل ،{وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين أسلموا كل حياتهم لك ،فعاشوا الانتماء إليك وحدك ،ورفضوا كل انتماءٍ إلى الآخرين إلاّ من خلالك ،فليس الإسلام عندهم مجرد صفةٍ يحملونها ،ولكنها حياةٌ يتجسدها الفكر والقلب والموقف والعلاقات ،والإسلام بهذا المعنى هو الذي يطبع شخصية المسلم ،ويفصل بينه وبين الانتماءات الأخرى ،ويميز شخصيته عن الشخصيات الأخرى ،بحيث يحميها من الضياع في ضباب الطروحات الأخرى .