قوله تعالى:{وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ( 123 ) وإذا جاءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} مجرميها ،مفعول أول لجعلنا .وأكابر مفعول ثان مقدم ليمكروا .واللام لام كي ،والتقدير: جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل .وقيل: أكابر مفعول أول .ومجرميها بدل منه{[1268]} .
والأكابر ،جمع أكبر مثل أفضل أفاضل .وأسود أساود .والمراد بمجرميها: فساقها من رؤوس الكفر والضلال والعصيان .وهذه هي سنة الله الظاهرة في الحياة والمجتمعات ،أن يكون المجرمون في كل قرية أو بلد أكابر فساقه ومجرميه .لكن المؤمنين المصدقين – في أغلب الأحوال – يكونون من الضعفاء والفقراء والبسطاء ،لكنهم هم الذين كتب الله لهم النصر وجعل لهم حسن الثواب والعاقبة في هذه الدنيا حيث النصر .وفي الآخرة حيث الجنة والرضوان .ومثل هذه الحقيقة نقف عليها بالملاحظة والتدبر والاستقراء لتعلم أن أكابر الأمصار والأقطار هم من المجرمين العتاة أو الجبابرة العصاة سواء كانوا من الساسة والقادة والحكام أو كانوا من المفكرين أولي النظريات والفلسفات الزائفة الجانحة عن صراط الله ،المناهضة لمنهجه العظيم .وقد خص الله الأكابر ،لأنهم أقدر على الإفساد والتحيل والمكر والكيد .وذلك لسطوتهم ورئاستهم وقوة مكانتهم في الناس .فهم بذلك يستتبعون الضعفاء والمحاويج لجانبهم فيستخفونهم لطاعتهم استخفافا .وفي زمن النبوة كان هؤلاء الفساق المجرمين يجلسون على طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس .عن الإيمان برسول الله ولينفروهم من الإسلام .وهذا ما يحدث للإسلام في كل زمان .إذ يتصدى أكابر المجرمين من ساسة وقادة وحكام متسلطين وأولي فكر مضلل مقبوح ،ونظريات شائهة كاذبة ،وأقلام مأجورة للظالمين والشياطين – يتصدون للإسلام بالتضليل والافتراء أو يتصدون للمسلمين فيذيقونهم النكال والويل والتعذيب .
قوله:{ليمكروا فيها} المكر معناه الاحتيال والخديعة والمكر والختل والغدر نظائر{[1269]} اللام لام كي ،وهو ما بيناه سابقا .وقيل اللام لام العاقبة .ويسمى لام الصيرورة .والتقدير: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليطيعوني ويمتثلوا أمري وكان عاقبتهم أن يمكروا بالمؤمنين وخدعوهم وكادوا بهم لينكلوا بهم ويقضوا عليهم أو يجعلوهم عالة صاغرين مستضعفين .
قوله:{وما يمكرون إلا بأنفسهم} هؤلاء الماكرين الذين يخادعون الإسلام والمسلمين ،والذين يأتمرون بالمسلمين لينكلوا بهم أو يقتلوهم أو يبددوا كلمتهم وشملهم لسوف يحيق بهم هذا المكر الغادر .إذ يجعل الله الدائرة عليهم أو يصيبهم من قوارع الدنيا وكوارثها ما يزلزلهم ويدمر عليهم حتى يصيروا إلى أتعس مآل من الشقاوة والمرض والعيش الآسن المنكود .
قوله:{وما يشعرون} هؤلاء المجرمون المفسدون في الأرض سادرون في غيهم وضلالهم ،لاهون عن مصيرهم الرهيب المحتوم ،وساهون عن مآلهم المظلم الذي ينتظرهم .حتى إذا انتقم الله منهم أو أخذهم أخذ عزيز مقتدر تذكروا وعضهم الاستيئاس والندم ولات حين مندم .