/م122
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} اختلف في وجه التشبيه هنا فاستنبطه بعضهم من قرينة الحال التي نزلت فيها السورة وهي بيان حال أهل مكة في كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بإغراء أكبارهم المستكبرين ، وتقديره:وكما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية من قرى الأمم أكابر مجرميها ليمكروا فيها فليس هؤلاء الأكابر ببدع من الأكابر المجرمين ، بل ذلك شأن الأكابر المترفين المتكبرين في كل أمة ، واستنبطه بعضهم من عبارة الآية التي قبل هذه الآية فجعل القرينة له لفظية فقال في التقدير:وكما زين للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية الخ وجمع بعضهم بين القرينتين اللفظية والحالية المعنوية فعلى هذا يكون التقدير هكذا:وكما أن أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها فزين لهم بحسب سنتنا في البشر سوء أعمالهم في عداوة الرسل ومقاومة الإصلاح اتباعا للهوى واستكبارا في الأرض .
ولفظ أكابر جمع أكبر ، وفسره مجاهد وقتادة بالعظماء أي الرؤساء إشارة إلى أنه جمع كبير ، قال ابن جرير ولو قيل هو جمع كبير فجمع أكابر لكان صوابا .واستدل بما سمع عن العرب من قولهم الأكابرة والأصاغرة والأكابر والأصاغر بغير الهاء قال:وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على أفعل إذا أخرجوها إلى الأسماء مثل جمعهم الأحمر والأسود الأحامر والأحامرة والأساود والأساودة ومنه قول الشاعر:
إن الأحامرة الثلاثة أهلكت***مالي وكنت بهن قديما مولعا{[993]}
وذكر البيت الثاني الذي بين الشاعر في الأحامرة وهي اللجم والخمر والزعفران من الطيب وقد اختلفوا في روايته وهو للأعشى .
والمجرمون أصحاب الجرم أو فاعلو الإجرام وهو ما فيه الفساد والضرر من الأعمال ، والقرية البلد الجامع للناس ويستعمل في التنزيل بمعنى العاصمة في عرف هذا العصر أي المدينة الجامعة التي يقيم فيها زعماء الشعب وأولو أمره:وكذا بمعنى الشعب أو الأمة ويعبر عنها أهل هذا العصر بالبلد فيقولون:ثروة البلد ومصلحة البلد أي الأمة والمعاهدات بين البلدين تقتضي كذا أي بين الأمتين أو الدولتين . "وجعلنا "متعدية لمفعول واحد عند بعضهم ولمفعولين عند الأكثرين واختلفوا في إعرابها فلخص البيضاوي أشهر الأقوال بقوله:أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وجعلنا بمعنى صيرنا ومفعولاه"أكابر مجرميها "على تقديم المفعول الثاني أو في كل قرية أكابر مجرميها بدل ، ويجوز أن يكون مضافا إليه إن فسر الجعل بالتمكين وافعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ ( أي في الشواذ )"أكبر مجرميها "ا ه ورجح الرازي أن المعنى:جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر .
والمكر صرف المرء غيره عما يريده إلى غيره بضرب من الحيلة من الفعل أو الخلابة في القول والأكثر فيه أن يكون الصرف عن الحق إلى الباطل وعن الخير إلى الشر لأن الحق والخير قلما يحتاج إلى إخفاءهما .بالحيلة والخلابة .
ونقول في العبرة بالآية بما يناسب حال هذا العصر إن سنة الله تعالى في الاجتماع البشري قد مضت بأن يكون في كل عاصمة لشعب أو أمة أو كل قرية وبلدة بعث فيها رسول أو مطلقا رؤساء وزعماء مجرمون يمكرون فيها بالرسل ، أو بأن يكون أكابرها المجرمون ماكرين فيها بالرسل في عهدهم وبسائر المصلحين من بعدهم .وكذلك شأن أكثر أكابر الأمم والشعوب ولا سيما في الأزمنة التي تكثر فيها المطامع ويعظم حب الرياسة والكبرياء:يمكرون بالناس من أفراد أمتهم وجماعتها ليحفظوا رياستهم ويعززوا كبرياءهم ويثمروا مطامعهم فيها ، ويمكر الرؤساء والساسة منهم بغيرهم من الأمم والدول لإرضاء مطامع أمتهم وتعزيز نفوذ حكومتهم في تلك الأمم والدول .وقد عظم هذا المكر في هذا العصر فصار قطب رحى السياسة في الدول ، وعظم الإفك بعظمه لأنه أعظم أركانه ، وقد كتبنا مقالا في بيان ذلك وشرح علله وأسبابه عنوانه ( دولة الكلام المبطلة الظالمة ) نشر في الجزء الخامس من مجلد المنار الحادي والعشرين فليراجعه من شاء .
وهذا العموم في الآية صحيح واقع يعرفه أهل البصيرة والعلم بشؤون الاجتماع والعمران ، ولا تظهر صحة العموم في القرى والأكابر جميعا بجعل الأكابر المجرمين ماكرين في جميع القرى ، أو بجعل جميع المجرمين فيها أكابر أهلها بحيث يكون الإجرام هو سبب كونهم أكابرها ، بل قد يتحقق بكون أكثر الأكابر الزعماء مجرمين ماكرين ولا سيما في القرى التي استحقت الهلاك بحسب سنة الاجتماع المبينة في قوله تعالى في سورة الإسراء:{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} ( الإسراء 66 ) ولا سيما على القول الراجح بأن معناه أمرنا مترفيها بما نرسل به الرسل من التوحيد وعبادة الله وحده وما يلزمه حتما من الصلاح والإصلاح والعدل ففسقوا عن أمر ربهم وظلموا وأفسدوا فحق عليها القول الذي أوحاه الله إلى الرسل بمثل قوله:{ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} فدمرناها تدميرا وكذا على القول بأن معنى{ أمرنا مترفيها} كثرانهم لأن كثرتهم وقلة الصالحين المتقين لا تتحقق عادة إلا إذا كان جمهور الأكابر منهم .
وقد راجعنا بعد كتابة ما تقدم تفسير الحافظ ابن كثير فألفيناه قد استشهد بآية الإسراء في تفسير الآية التي نحن بصدد تفسيرها وقال:قيل معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمرناهم وقيل أمرناهم أمرا قدريا كما قال هنا"ليمكروا فيها "وقوله تعالى:{ أكابر مجرميها ليمكروا فيها} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال:سلطنا شرارهم فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم .ا ه والمراد بالأمر القدري ويعبر عنه بعضهم بأمر التكوين ما اقتضته سنة الله تعالى في نظام الخلق وتكوينه كما قال:{ إنا كل شيء خلقناه بقدر} ( القمر 49 ) أي بنظام مقدر لا أنفا ، وبحكمة بالغة لا جزافا ، ثم نعود إلى بحث العموم في الآية فنقول:لو كانت العبارة نصا في أن جميع أكابر كل قرية مجرمون ماكرون لوجب جعلها من باب العموم المراد به الخصوص ، بأن يراد بالأكابر المجرمين من يقاومون دعوة الإصلاح ويعادون المصلحين من الرسل وورثتهم لينطبق على الواقع ، وإلا فإن أكابر أهل مكة لم يكونوا كلهم ماكرين بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنما كان أكثرهم كذلك .
وعلل المفسرون تخصيص أكابر بأنهم أقدر على المكر واستتباع الناس ، ومن قال منهم بأن المعنى جعلنا مجرميها أكابر ينبغي له أن يجعل اللام في قوله: "ليمكروا "لام العاقبة فإن المجرمين إذا صاروا أكابر بلد وزعماءه لا يمكنهم أن يحافظوا على مكانتهم فيه إلا بالمكر والخداع فيصير أمرهم إليهما .
{ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} هذا بيان حقيقة أخرى من طبائع الاجتماع الإنساني متممة لما قبلها وهي تتضمن الوعي لأكابر مجرمي مكة الماكرين والوعد والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك بالإيجاز الذي يستنبطه الأذكياء من أمثال هذه القواعد العامة وسيصرح به في الآيات التالية .أي وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل في عصرهم ودعاة الإصلاح من ورثتهم بعدهم إلا بأنفسهم وكذا سائر من يعادون الحق والعدل والصلاح لبقاء ما هم عليه من الفسق والفساد لأن عاقبة هذا المكر السيئ تحيق بهم في الدنيا والآخرة ، أما في الآخرة فالأمر ظاهر والنصوص واضحة ، وأما في الدنيا فيما ثبت في الآيات من نصر المرسلين وهلاك الكافرين المعاندين لهم ومن علو الحق على الباطل ودمغه له ، ومن هلاك القرى الظالمة المفسدة وبما أيد ذلك من الاختيار حتى صار من قواعد علم الاجتماع أن تنازع البقاء ينتهي ببقاء الأمثل والأصلح وفاقا للمثل الذي ضربه الله تعالى للحق والباطل{ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} ( الرعد 17 ) .
ومن النصوص الصريحة فيه بمعنى الآية قوله تعالى في مجرمي مكة{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم .فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين ؟ فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا} ( فاطر 42- 43} وهذا نص فيما انفردنا بفهمه من أن هذه الآيات بيان لسنن الله تعالى في الاجتماع البشري وقوله تعالى في رهط قوم صالح المفسدين ، وهو ما أشار إليه هنا من سنة الأولين{ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين} ( النمل 52- 53} فالذين كانوا يمكرون السيئات لمقاومة إصلاح الرسل حرصا على رياستهم وفسقهم وفسادهم ، لم يكونوا يشعرون بأن عاقبة مكرهم تحيق بهم لجهلهم بسنن الله تعالى في خلقه وهم جديرون بهذا الجهل .
وأما أكابر المجرمين في هذا العصر فهم لا يعذرون بالجهل بعد هذا الإرشاد ولكن هؤلاء قلما يقاومون بمكرهم إصلاحا يرضي الله تعالى كإصلاح الرسل وورثتهم لأنه لا يكاد يوجد فيقاوموه ، ومن هذا القليل مكر أكابر الاتحاديين العثمانيين ، لإزالة ما كان في الدولة من بقايا الشرع وفي الأمة من بقايا الدين وسوء عاقبتهم دليل على ذلك وهو حجة على المتعصبين لهم ، وعلى المشتبهين في أمرهم .وإنما يمكر أكثر زعماء الأمم اليوم بأمثالهم من المعارضين لهم من أمتهم في الأمور الداخلية ومن خصومها في السياسة الخارجية والمطامع الأجنبية ، فمكرهم في الغالب باطل يصادم باطلا ، وإن كان بعضه يسمى حقا عرفيا أو سياسيا ، فإن وجد بعض هذا الصدام حق صحيح ووجد من يؤيده وينصره فلا بد أن تكون العاقبة له ، وتحقيق معنى الحق والباطل دقيق جدا ، وقد حررنا فيه مقالا خاصا عنوانه ( الحق والباطل والقوة ) بينا في حقيقته وأنواعه كالحق في الفلسفة والنظريات العقلية ، والحق في الوجود وسنن الكون ، والحق في السنن الاجتماعية ، والحق في القوانين والمواضعات العرفية ، والحق في الدين والشريعة الإلهية .وبينا بالدليل الواضح أن الحق الصحيح يغلب الباطل في كل شيء ومعنى وعد الله بنصر المؤمنين وصدقه بشرطه ، وحال المسلمين في هذا العصر مع الأمم الغالبة لهم .وقد نشرنا هذا المقال في المجلد التاسع من المنار ( ص 52 65 ) .