/م122
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} قرأ جمهور القراء ميتا بسكون الياء ونافع ويعقوب بتشديدها والتشديد أصل التخفيف الذي حذفت فيه الياء الثانية المنقلبة عن الواو في التشديد ، والاستفهام للإنكار ، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة محذوفة للعلم بها من السياق{ وهو من لطائف الإيجاز} عطف عليها قوله:{ ومن كان ميتا} والتقدير أأنتم أيها المؤمنون كأولئك الشياطين أو كأوليائهم الذين يجادلونكم بما أوحوه إليهم من زخرف القول الذي غروهم به ، ومن كان ميتا بالكفر والجهل فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نورا يمشي به في الناس وهو نور القرآن وما فيه من العلم الإلهي والهداية بالآيات إلى العلم النظري ، كمن مثله أي صفته ونعته الذي يمثل حاله هو أنه خابط في ظلمات الجهل والتقليد الأعمى وفساد الفطرة ليس بخارج منها لأنها قد أحاطت به وألفتها نفسه فلم يعد يشعر بالحاجة إلى الخروج منها إلى النور بل ربما يشعر بالتألم منه فهو بإزاء النور المعنوي كالخفاش بإزاء النور الحسي .هذا التقدير للجملة الاستفهامية المحذوفة هو الذي ارتضاه بعض المدققين في العربية .
ويمكن أن يقدر ما هو أقرب منه إلى المعنى الذي يصل الآية بما قبلها مباشرة وهو قوله تعالى:{ وإن أطعتموهم أنكم لمشركون} ( الأنعام 121 ) بأن يقال عن تقدير الكلام:إطاعة هؤلاء المتبعين لوحي الشياطين ، كطاعة وحي الله تعالى وهو النور المبين ، ومن كان ميتا بالكفر والشرك فأحييناه بالإيمان ، وكان متسكعا في ظلمات الجهل والغباوة وتقليد أهل الضلال فجعلنا له نورا من آيات القرآن المؤيدة بالحجة والبرهان ، يمشي به في الناس على بصيرة من أمره في دينه وآدابه ومعاملاته للناس ، كمن مثله المبين لحقيقة حاله كمثل السائر في ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر ؟ وفسر بعضهم النور بالدين والإسلام والمصداق واحد ، والعبرة في هذا المثل أن يطالب المسلم نفسه بأن يكون حيا عالما على بصيرة في دينه وأعماله وحسن سيرته في الناس ، وقدوة لهم في الفضائل والخيرات ، وحجة على فضل دينه على جميع الأديان ، وعلو آدابه على جميع الآداب .
هذا المثل عام يشمل كل من ينطبق عليه في زمن التنزيل وغيره وعليه عامة أهل التفسير .وروي أنه نزل في رجلين بأعيانهما والمراد والله أعلم أنه نزل في ضمن السورة صادقا عليهما ظاهرا فيهما أتم الظهور ، فإن السورة نزلت جملة واحدة كما تقدم ومن استثنى منها بعض آيات لم يذكروا هذه الآية منها وإلا لكان شموله من باب قاعدة:العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، على أنهم اختلفوا في الرجلين ، واختلافهما يرجح ما قلناه من إرادة صدق المثل عليهما فروي عن ابن عباس وزيد بن أسلم والضحاك أن الأول صاحب النور عمر بن الخطاب ( رض ) وعن عكرمة أن الأول عمار بن ياسر كذا في كتب التفسير بالمأثور وذكر الرازي قولين آخرين عزا أحدهما إلى ابن عباس وهو أن الأول حمزة ( رض ) عم النبي صلى الله عليه وسلم والثاني أنه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وعزاه إلى مقاتل ، وهذا أضعف الأقوال وأهواها فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقال إنه كان قبل النبوة ميتا وإن ورد في سورة الضحى أنه كان ضالا أي لا يعرف المخرج من الحيرة التي كان فيها من أمر إصلاح الناس وهدايتهم ولا الكتاب ولا الإيمان التفصيلي الذي أوحى إليه بعد ذلك .
وقد اتفق أصحاب هذه الأقوال على أن الرجل الثاني في المثل هو أبو جهل لعنه الله تعالى .قال الرازي في الرواية الأولى إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث"وهو ما في الكرش "وحمزة يومئذ لم يؤمن فأخبر بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس وجعل يضرب رأسه فقال أبو جهل:أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا وسب آلهتنا .فقال حمزة أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله .أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله .وقال في الثانية إن أبا جهل قال:زاحمنا بنو عبد مناف بالشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا:منا نبي يوحي إليه ، والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه .وقصة إلقاء فرث الجزور على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد مشهور ، وكذا قول أبي جهل في بني عبد مناف ولم يكن شيء متهما سببا لنزول هذه الآية .
{ كذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي مثل هذا التزيين الذي تضمنه المثل في الجملة السابقة وهو تزيين نور الهدى والدين لمن أحياه الله تلك الحياة المعنوية العالية ، وتزيين ظلمات الضلال والكفر لموتى القلوب ، قد زين للكافرين ما كانوا يعملونه من الآثام كعداوة النبي صلى الله عليه وسلم وذبح القرابين لغير الله تعالى وتحريم ما لم يحرمه وإحلال من ما حرمه عليهم بمثل تلك الشبهات التي تقدم شرحها في تفسير الآيات السابقة .وقد بني فعل التزيين هنا للمفعول لأن المشبه به حسن وقبيح فالأول تزيين عمل المؤمن للمؤمن والثاني تزيين عمل الكافر للكافر ، وإنما لم يذكر في المشبه إلا النوع الثاني لأن السياق له وإنما ذكر الأول في المثل المشار إليه في التشبيه لبيان قبح الضد بمقابلته بحسن ضده ، والذي يزين للكافرين أعمالهم القبيحة هو الشيطان بوسوسته كما قال في خطابه للباري تعالى:{ لأزينن لهم في الأرض} ( الحجر 39 ) وسائر شياطين الإنس والجن كما تقدم في تفسير الآية 111 وإن كان كل ما يجري في الكون يسند إلى الله تعالى باعتبار الخلق والتقدير وإقامته نظام الكون بسنن ارتباط الأسباب بالمسببات وتقدم إسناد تزيين الأعمال إلى الشيطان في الآية 43 من هذه السورة .وقد حققنا في تفسير قوله تعالى:{ زين للناس حب الشهوات} ( آل عمران 13 ) ما يسند من التزيين إلى الله تعالى وما يسند منه إلى الشيطان وما يبني فعله للمجهول بالشواهد من الآيات الكثيرة الواردة في ذلك .فليراجع في الجزء الثالث من التفسير ومنه يعلم ضعف استدلال بعض المفسرين والمتكلمين بالآية على مذاهبهم .