{جَعَلْنَا}: حكمنا حكماً تكوينياً بحسب النظام الكوني والأسباب والمسببات وصراع الإرادات .وقد مر سابقاً .
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديقال ابن عباس في آية:{أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل ،وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله( ص ) بفرث ،وحمزة لم يؤمن بعد ،فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه ،وبيده قوس ،فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ،ويقول يا أبا يعلى ،أما ترى ما جاء به ؟سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف آباءنا ؟!قال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله ،أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له ،وأن محمداً عبده ورسوله ،فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقيلكما جاء في مجمع البيانإنها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل ،عن عكرمة ،وهو المروي عن أبي جعفر( ع ) .وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب ،عن الضحاك ،وقيل: إنها عامّة في كل مؤمن وكافر عن الحسن وجماعة ،قال الطبرسي: وهذا أولى لأنه أعمّ فائدةً فيدخل فيه جميع الأقوال المذكورة .
والظاهر أن ما ذكره الطبرسي في المجمع هو الأقرب ،وذلك لأن الروايات الواردة في مناسبة النزول ليس فيها ما يدلّ على أن هناك مشكلةً في التساوي والتفاضل بين شخص وشخص ،لتكون الآية متعرضة لتفضيل هذا الشخص المؤمن على ذلك الشخص الكافر .فإن الروايات جاءت لتتحدث عن صراع بين شخصين أحدهما في موقع الكفر والآخر في موقع الإيمان من دون وجود أيّ حديث آخر حول نسبة أحد الموقعين إلى الموقع الآخر ،ولهذا فإننا نتصور أنها واردة في مورد الآيات التي تفضل الإيمان على الكفر ،كقوله تعالى:{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [ السجدة:18] ،أو التي تفضل العالمين على الجاهلين ،كما في قوله تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [ الزمر:9] في سياق الحديث عن القاعدة الحاكمة على الواقع من حيث المبدأ ،والله العالم .
وجاء في مجمع البيان في نزول قوله تعالى:{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ} قال: نزلت في الوليد بن المغيرة ،قال: والله لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً .
ونلاحظ على هذه الرواية أنها تتحدث عن كبر السنّ أساساً للتفضيل في إنزال النبوّة عليه ،ولا تتحدث عن إنزال الوحي عليه كشرط للإيمان بما جاء به النبي .
وقيل: نزلت في أبي جهل بن هشام قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يوحى إليه ،والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحيٌ كما يأتيه ،عن مقاتل .
انفتاح المؤمن على الله وانغلاق الكافر على ذاته
{أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} .في هذه الآيات وما بعدها ،حديثٌ عن الجوّ الداخليّ الذي يعيشه الإنسان المؤمن ،في الانفتاح على الحياة من خلال الانفتاح على الله ،في مقابل الجوّ المنغلق الذي يعيشه الإنسان الكافر ،وذلك من خلال الحديث عن الإنسان الذي كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس ،ولكن كيف نتمثل هذه الصورة ؟
إن الموت هنا لا يعني الموت المادي ،وهو انعدام الحياة في الجسد ،بل هو فراغ الإنسان من حركة الفكر والشعور والإيمان ،وذلك عندما يعيش بدون فكرةٍ أو قضيّةٍ ،ولا يعرف ما يريد ،ولا ماذا يراد به ،فلا مجال لأيّة حركة للحياة في أعماقه ولا من حوله ،لأن قضية الحياة والموت في الجانب الروحي والفكري في الإنسان تتمثّل في ما ينطلق به من آفاقٍ وأوضاعٍ وأفكار ومشاريع وعلاقاتٍ ،فإذا كان الإنسان مؤمناً ،بالمعنى الواسع للإيمان ،فإنه ينفتح على الله ،وعلى كل المعاني الخيّرة ،والقيم الكبيرة ،والآفاق الروحية ،في حركة الامتداد والعمق ،أمّا إذا كان كافراً ،فإنه ينغلق على ذاته ،ولا ينفتح على أيّ شيءٍ آخر ،إلا من خلال المادة ،فهي ساحة الحركة الضيقة عنده ،لأنه لا يملك الفكرة الكبيرة التي تربطه بتلك الافاق ،فالمادّة هي كل طموحاته ،وكل شيءٍ في الحياة يخضع للحسابات المادية ،حتى العواطف والمشاعر والعلاقات ،فلا يعطي إلا بمقدار ما يأخذ .إنه يستمر في الدوران حول نفسه ،فيختنقفي النهايةداخل ذاته .
ثم إن الإيمانفي شخصية المؤمنيوحي له بأنه لا يمثّلكما لا يمثل أيّ شيء في الحياةكياناً مستقلاً منفصلاً عن الله ،بل يعتبر كل شيء موصولاً به ،ومنطلقاً منه .وبذلك كانت الحياة ساحةً خاضعةً لله ومشدودةً في علاقاتها إليه ،فإذا فكَّر الإنسان ،فإن الفكر يتحرك من حيث يريد الله له أن يتحرك ،ليكون الفكر المسؤول ،كما أن العمل يتحرك في خط المسؤولية العامة في حياة الناس ،كل شيءٍ عنده بحساب ،ولكنها ليست حسابات التبادل المادي التجاري مع الناس ،بل هي حسابات الإنسان مع الله ،وبذلك لا تكون التضحية حركة ضائعة في الفراغ ،بل هي انطلاقةٌ في علاقة الدنيا بالآخرة ،في حسابات الله .
وفي ضوء ذلك ،كانت الحياة عنده تعني الرسالة التي هي الهدف الكبير ،فلا ضياع ولا فراغ ،ولا قلق ،لأن الإنسان المؤمن يعتقد أن بداية الحياة من الله ،ونهايتها إليه ،وبين البداية والنهاية هناك خطٌّ واضحٌ للمسؤولية ،وبرنامجٌ عملي للإنسان ،ينير له الطريق ،ويخط له حدود المستقبل على الصراط المستقيم ،وذلك ما تعنيه الكلمة القرآنية:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} [ فصلت:30] التي تسير فيها نقطة البداية إلى خط السير ،وذلك هو ما تعنيه كلمة النور الذي يمشي به بين الناس ،فهو الذي يحقق له الوضوح في كل أوضاعه وعلاقاته العامة والخاصة ،فلا ظلام ولا ضباب ،بل هي الإشراقة الدائمة في روحه وقلبه وخطاه .
أمَّا الإنسان الكافر ،فمثله مثل الإنسان الذي يعيش في الظلمات ،فلا يخرج من ظلمةٍ إلاّ إلى أخرى ..ليس هناك نافذةٌ واحدةٌ يطل منها على النور ..فقد أغلق جميع نوافذ النور على نفسه ..وبقي يتخبَّط في متاهات الظلام ..فليس عنده أيّ تصوّر يحدّد له نقطة الانطلاق ونقطة الانتهاء ..فهو لا يدري كيف نشأت الحياة ،ولا يدري كيف ستنتهي ،وما بعد ذلك ،ولا يعرف الأساس الذي يحدّد من خلاله برنامجه ،لأن خطة الحياة تخضع للأهواء وللشهوات التي تتغيّر وتتبدل تبعاً للظروف ،من العدم انطلق ،وإلى العدم يعود ..ويتحرك الوجود معه في أجواء العدم .
وفي كل يوم شهوةٌ جديدة ،وهوًى جديد ،فإذا أقبلت الأزمات والمشاكل في ظلماتٍ بعضها فوق بعض ،فإنه يعيش معها التخبّط والقلق والعقد النفسيّة ،لأنه لا يملك نوراً يملأ قلبه ويضيء طريقه ..وهكذا تنطبق عليه الآية:{كمن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} .
ولكن مشكلته أنه لا يعي معنى النور ليفهم معنى وجوده في الظلام ،فهو يملك صورةً خاطئةً عن النور والظلام ،فقد يحسب النور ظلاماً ،كما يحسب الظلام نوراً ،لأن القضية ليست قضية الوجود المادي لهما ليستطيع أن يحدد طبيعة ما هو فيه ،على أساس إشراقة النور في عينيه ،وإحساسه به في وجوده ،ولكن القضية قضية الوجود المعنوي ،الذي قد يختلط فيه الأمر على أساس المفاهيم التي يحملها ،كما نلاحظ في ما نواجهه في عصرنا هذا ،من التسمية المعروفة عنه بأنه عصر النور ،على أساس انطلاق الرؤية فيه من اتجاه واحدٍ دون بقيّة الاتجاهات ،ما قد يختلط فيه ميزان العقل بميزان الشهوة ،فيخيّل للإنسان أنه يتحرك بعقله وفكره ،بينما هو يتحرك بشهوته ومزاجه ،وبذلك يختلط لديه عنصر الظلمة بعنصر النور .
زيِّن للكافرين ما كانوا يعملون
وهذا ما توحيه الفقرة التالية في الآية:{كذلك زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فإن الإنسان إذا اعتقد شيئاً أحبّه وأخلص له ،وإذا اندمج فيه ،واستغرق في داخله ،ولم يكتشف فيه الجانب الأسود السيّىء ،خيّل له أنه الحسن الذي لا قبح فيه ،وتزيّن له كلُّ شيء فيه ،حتى لا يسمع فيه نقداً ولا يقبل فيه نقاشاً .وتلك هي الغريزة الإنسانية التي تتعامل في ما تصدره من أحكام سلبيّةٍ أو إيجابيّةٍ مع الجانب المشرق الذي تلتقي فيه الفكرة المحبّبة بالمشاعر الجميلة ،بينما ترتبط المشاعر السيّئة بالفكرة البغيضة .
ولكنّ الغريزة لا تلغي في الإنسان إرادة التغيير ،لأن الله جعل العقل قائداً لها ومنظّماً لمشاعرها وحركاتها ،وحرّك الإرادة لتقف بها في نقطة التوازن ،فإذا أهمل الإنسان عقله ،وجمّد إرادته ،فإنه يهمل مصيره من حيث يقيم الله الحجة عليه في ذلك ،ومن هنا كانت عمليّة التزيين هذه التي تشير إليها الآية ،لا تعني الجانب المباشر من الفعل ،بل تعني الجانب الطبيعيّ في ما ركّب في الإنسان من طبائع وغرائز ،من أجل أن تبني له حياته ، كما يحب ويريد ،مع التأكيد على المسؤولية في الجانب العقلي والإرادي منها .
وفي هذه الآية إيحاءٌ للإنسان بأن عليه أن يثير الحياة في نفسه ،ويخرجها من الموت الفكري والروحي الذي يجرّه إلى تخيّل أنّ قيمة الإنسان في أطماعه وشهواته ،وذلك بأن يعيش الإيمان بعمقٍ ليشعر بامتداد الحياة في نفسه إلى كل شيءٍ حوله ،من خلال إحساسه بالمسؤولية عن الأرض والناس ،وعن النبات وغير ذلك في المدى الذي تتسع فيه قدرته ..وبهذا يحصل الإنسان على نوعٍ ٍفريدٍ من التفاعل بين الإيمان وسعة الشخصية .فكلّما عاش الإيمان أكثر ،كلما تحركت شخصيته في الجانب السليم أكثر .أمّا إذا غفل عن إيمانه ،واستسلم لما حوله ولمن حوله ،فإنه يستسلم للجانب السلبيّ من حركة الواقع في ما يعيشه من حالة القلق والضياع والارتباك والتخبّط التي تفرزها مفاهيم الكفر في عقل الإنسان .وهذا هو العنصر الذي يقود إلى الخبث والمكر والجريمة ،وغير ذلك من المعاني التي تتمثل في الشخصيات التي تعيش لذاتها ،فلا تتفتق عبقريتها إلا عن أفكار الشرّ ،ولا تتحرك قوتها إلا في طريق الصدّ عن الخير وعن سبيل الله فيفسدون الحياة بمكرهم ،ولكن القضية ترتدُّ عليهم في نهاية المطاف ،لأن الله لم يجعل لهم السلطة المطلقة التي يحققون فيها لأنفسهم ما يشتهون وما يريدون ،بل وضع لهم حداً مقيداً يقفون فيه ،حيث تقف حدود قدرتهم ،وحيث تبدأ العناصر الآخرى في الساحة بمواجهة فسادهم مواجهةً قويّةً حاسمة .