{لَمُشْرِكُونَ}: لمشركون بطاعتهم لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله فتكونون منهم{وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [ المائدة:51] .فإن الشرك لا يقتصر على العبادة المعروفة لغير الله ،بل يشمل مجالاتٍ أوسع ،حتى أن أكثر المؤمنين مشركون{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [ يوسف:106] فهو شرك الطاعة وشرك الأسباب .
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول للواحدي: في قوله:{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال المشركون: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها ؟قال: الله قتلها .قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ،وما قتل الكلب والصقر حلال ،وما قتله الله حرام ،فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال عكرمة: إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تحريم الميتة ،كتبوا إلى مشركي قريش ،وكانوا أولياءهم في الجاهلية ،وكانت بينهم مكاتبة ،أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتّبعون أمر الله ،ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال ،وما ذبح الله فهو حرام ،فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ،فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ونلاحظ على هاتين الروايتين ،أنّ المطروح في هذه الآيات ليس هو مشكلة حلية الميتة أو حلية الذبيحة لتنزل هذه الآيات فتؤكد الحل للمشكلة ،بل المطروح هو ذكر اسم الله على الذبيحة وعدمه أو ذكر اسم غيره كالذبح على النصب ،فلا تناسب بين مضمون الآيات ومناسبة النزول مما تذكره الروايتان .هذا من جهة ،ومن جهة أخرى ،إن أكل الميتةبمعنى ما مات حتف أنفهلم يكن معهوداً عند العرب أو عند الفرس ليسجّلوا اعتراضهم على الإسلام في تحريمها ،ولهذا فقد يكون ما ذكر اجتهاداً من الرواة في مناسبة النزول ،لا برواية عن الواقع في نزول الآية .
ويعود الحديث من جديد إلى المسألة التي أثارها المشركون في موضوع الذبائح{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} وهذا ما يؤكّد الخط الأساس في موضوع حلّ الذبيحة ،حيث يكون الخط الفاصل بين الحرام والحلال ذكر اسم الله وعدمه ،{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} لأنه يمثل التجاوز عن خط الشريعة التي أنزلها الله على رسوله .وذلك هو مظهر الفسق في حياة الناس ،والمعصية لله من موقع الإصرار عليها ،وهناك عدة أحاديث فقهية حول هذه المسألة ،من حيث كفاية ذكر اسم الله في حلّية الذبيحة ،أو إضافة شرط إسلام الذابح إلى ذلك ،ونحو ذلك من الأمور التي أفاض فيها الفقهاء ،مما لا نجد مجالاً للحديث عنه في التفسير ،فليترك ذلك إلى كتب الفقه .
إطاعة أولياء الشياطين شرك
{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} من الكافرين والمشركين الذين يتقنون إثارة الشبهات في ما يمكن أن يستلب الشعور ويأخذ العقل ،لا لشيءٍ إلا لما يعيشونه من عقدةٍ مَرَضيّةٍ تجاه الإيمان{لِيُجَادِلُوكُمْ} بأسلوب مماثل للذي ألمحنا إليه ،حيث كانوا يحاولون الإيحاء إليهم أن قتيل الله أولى بالأكل من قتيلهم .
وربما كان من بين أساليبهم إثارة الشبهة حول ما يعنيه اسم الله في موضوع الحلّ ،ما دام ذلك لا يغيّر شيئاً من طبيعة الذبيحة وعناصرها النافعة والضارّة ،ولكنهم ينظرون إلى القضية من جانبها المادي الذي يتعامل مع الأشياء من منظورٍ مادّيٍّ لا مكان للروح فيه ،ولكن الإسلام يريد أن يربِّي الإنسان على وجود جانب فوق المادة لا بد من أن يمارسه في مأكله ومشربه ومطعمه وملذاته ،فإذا أراد أن يذبح الحيوان ويأكله ،وهو مخلوقٌ مثله ،فعليه أن يتحسَّس في ذلك أنه لا يأكله من خلال صفة الحاجة الطبيعية فيه فحسب ،بل من خلال إذن الله وأمره له بذلك ،فهو يتحرَّك في كل مجالاته بإذن الله وأمره ،ليتأكد فيه هذا الإحساس العميق بعلاقته بالله .وبهذا نفهم كيف تحرَّك الأدب الإسلامي في استحباب ذكر اسم الله على كل بدايةٍ أو نهايةٍ في قضايا الطعام والشراب والجنس والعلاقات العامة للإنسان ...حتى يكون ذلك بمثابة إيحاء دائم للإنسان بعلاقته بالله ،وبارتباطه به في كل شيء .وبذلك يكون الشيء خبيثاً عندما يفقد اسم الله ،وطيِّباً عندما يذكر اسم الله عليه .
{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إشراك العبادة الذي يعني الطاعة والخضوع .فإذا كان هناك وحي الله ووحي الشيطان ،واختار الإنسان غير وحي الله ،فإن ذلك يعني التمرد على الله والخضوع لغيره ،وذلك هو الشرك غير المباشر ،لأن قضية التوحيد ليست مجرد فكرةٍ تعيش في العقل ،كما تعيش المعادلات الرياضية المجرّدة ،بل هي فعل إيمانٍ يتحرك في الفكر ليحرِّك المشاعر والأفعال والأقوال والمواقف ،لتكونكلهاصورة حيّةً له ،لتتحول الحياة من حوله إلى فعل إيمان بالله وبطريقه .