{أَكَابِرَ}: جمع الأكبر وقد قالوا: الأكابرة والأصاغرة ،كما قالوا: الأساورة والأحامرة .
{لِيَمْكُرُواْ} أصل المكر: الفتل ،ومنه: جارية ممكورة ،أي: مفتلة البدن ،فكان المكر معناه الفتل إلى خلاف الرشد .
في كل مجتمع مترفون يمكرون فيه
{وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} ففي كل مجتمعٍ صغير أو كبير فئةٌ من المترفين الذين يعتبرون أنفسهم في الطبقة العليا من المجتمع ،ويرون لأنفسهم الحق في أن يخططوا للناس حياتهم ويفرضوا عليهم سلطتهم ،ولذلك فهم يعملون للجريمة في نطاق الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد ،بكل ما يملكون من وسائل المكر الذي يعبِّر عن التدبير الخفيّ الذي يوهم الآخرين بأنه خيرٌ ،في الوقت الذي يمثل أبشع أنواع الشر ،{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} لأن الجريمة إذا تحوّلت إلى تيارٍ اجتماعي ،فإنها تتسع في حركتها حتى تعود لتفتك بالناس الذين دبَّروها ،فهي لا تتجمد في أيدي صانعيها ،بل تمتد لتنتقل إلى أيدي الناس الذين لا تتفق أطماعهم ومصالحهم مع الناس الآخرين ،فيرتدّون عليهم ليصنعوا بهم ما صنعوه بغيرهم .
ثم ماذا بعد الجريمة ؟فليذهب هؤلاء يميناً وشمالاً ،وليربحوا ما شاءت لهم أطماعهم من أرباح الحياة الدنيا ،فإنهم سيقفون أمام الله ،إن عاجلاً أو آجلاً ،وسيشعرون هناك بأنهم خسروا أنفسهم ،وأن مكرهم الذي صنعوا منه الجريمة قد تحوّل إليهم ،ليجدوا أنفسهممعهوجهاً لوجه أمام الناروبئس القرار ..وتلك هي الحقيقة التي ستواجههم غداً نتيجة ما فعلوه ،ولكنهم يفعلون ما يفعلون بأنفسهم{وَمَا يَشْعُرُونَ} بالنتائج التي ستتمخّض عنها في الدنيا والآخرة .
ويأتي السؤال في كل آيةٍ مماثلة جاء فيها قوله تعالى:{وَكَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} فإذا كان الله هو الذي يجعل ،فأين يكمن عنصر الاختيار الإنساني في صنع الجريمة ؟
وقد أجبنا عن ذلك ،بأن الجعل هنا ليس بالطريقة المباشرة ،ولكن بالطريقة غير المباشرة الموجودة في النظام الكوني الذي أودعه الله في الكون وربط فيه الأسباب بمسبباتها ،وجعل من بين الأسباب إرادة الإنسان واختياره بالإضافة إلى الظروف الموضوعية المحيطة به ،مما لا يشلّ قدرته ،ولا يعطّل إرادته ،وبذلك صحّت نسبة الجعل إلى الله ،باعتبار علاقة الفعل بالنظام العام الذي خلقه الله ،وترك للإنسان أن يتحرك في نطاقه بملء إرادته وحرّيته .