{أَجْرَمُواْ}: الإجرام: الإقدام على القبيح بالانقطاع إليه ،لأن أصل الجرم القطع ،فكأنه قطع ما يجب أن يوصل من العمل .ومنه قيل للذنب: الجريمة .
{صَغَارٌ}: ذل وهوان .والصاغر: الراضي بالمنزلة الدنيّة .
أساليب الكافرين في المكر
ويتحدث الله لنا في الآية الثالثة عن بعض أساليبهم في المكر ،فهم لا يرتبطون إلا بالجانب الحسّي في حياتهم ،أمّا العقل والفكر وما يتطلبانه من تأمّل وحوار ،فليس لهما مكانٌ في حياتهم .ولذلك فهم لا يطلبون الإيمان من خلال حركة الفكر ،بل من خلال حركة الحس ،وإذا طلبوه من خلال الحس ،فإنهم يطلبون الشيء الذي اعتادوه أو سمعوا عنه ،فلا يقبلون نموذجاً آخر ،مما لم يمر عليهم ،ولم يحدثهم الآخرون عنه ،{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ} من معجزةٍ ترتكز على الجانب العقلي ،أو تتفق مع طبيعة الظروف والأوضاع المحيطة بهم ،{قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} فقد سمعوا أن موسى( ع ) جاء بالعصا ،وأن عيسى( ع ) جاء بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأرادوا آياتٍ كهذه ،ولكنهم لم يفكروا لحظةً واحدةً ،في أن قصة المعاجز ليست موضوعاً خاضعاً للتمنيات والافتراضات ،وليست عمليّةً منفصلةً عن طبيعة التحدي التي تواجهها الرسالات ،فقد أرسل الله موسى( ع ) بالعصا ردّاً على التحدي الكبير لفرعون الذي استعمل وسائل السحر ،كما أن الله أرسل عيسى( ع ) بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ،رداً على التحدي الذي كان يشكل فيه الطب في زمنه نوعاً من أنواع التحدي .وليست المعاجز سبيل هدًى ،فللهدى وسائله التي تنفذ إلى العقل ،ولكنها سبيل قوّةٍ في مواجهة القوّة المضادّة ،ولهذا فلا معنى لما طلبوه ،بل عليهم أن يفكروا في ما قدمه إليهم الرسول( ص ) مما يبعثهم على التفكير ،ويدعوهم إلى المناقشة والحوار .
الله أعلم حيث يجعل رسالته
وهذا الوجه الذي ذكرناه مبنيّ على القول الذي فسّر الآية ،بأن أكابر المجرمين من العرب اقترحوا على محمد( ص ) أن يأتيهم من المعجزات مثل ما أوتي موسى( ع ) من فلق البحر وعيسى( ع ) من إحياء الموتى ،وهناك قولٌ آخر إنهم قالوا له: لن نؤمن حتى ينزل علينا الوحي كما أنزل على الأنبياء ،وربما كان هذا القول أقرب إلى جوّ الآية في ما جاء بعد هذه الجملة التي أرادها الله ردّاً عليهم:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فليست قضية الرسالة امتيازاً ذاتياً يمنحه الله لأيّ شخص كان ،بل هي قضية اصطفاء واختيار وكفاءةٍ ،في ما يعلمه الله من قابليات عباده وقدرتهم ،فمنهم الذي تميّز بسعة الفكر ،وصفاء الروح ،وطيبة القلب وقوّة الإرادة ،وعناصر القيادة ،ومنهم الذي تميّز بضيق الأفق ،وقلق الروح ،وخبث النيّة ،وضعف الإرادة ،فاختار من النموذج الأول أنبياءه ورسله ،وترك الآخرين في موقع القاعدة وأرادهم أن يهتدوا بهدى الأنبياء وأن يجاهدوا في سبيل الوصول إلى ذلك ،وسهّل لهم سبيل الإيمان ،بما يتفق مع قابلياتهم وإمكاناتهم ،فليس لهم أن يطلبوا لأنفسهم ما لا يملكون عناصره ،لأن الرسالة ليست مجرد كلمات يتلقفها الإنسان ويحفظها ثم يبلّغها للآخرين ،بل هي قضية قيادة الحياة في جانبها الفكري والروحي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ..وتغيير الإنسان على أساس هدى الله ،بالكلمة وبالأسلوب وبالقدوة الحسنة ،بحيث تعيش الرسالة في شخصية الرسول جسداً يتحرّك بكل أخلاقياتها ومعانيها ،وروحاً تصفو وتهفو وتحنو وترقّ وترعى ،فيحسّ الناس معها بالرحمة التي تحيط بهم من كل جوانب حياتهم ،ويعيشون معها برد السلام وهدوء الطمأنينة .
إنّ حركة الرسالة في شخصية الرسول تعني أن يعيش هذا الإنسان في فكره وروحه وكيانه كله مع الله ،ليستطيعمن خلال ذلكأن يحتوي كل آفاق الرسالة ومعانيها في كل مراحل حياته في الدعوة وفي الحكم وفي الجهاد ،وبذلك كان الرسول يأخذ من الرسالة وحياً تنفتح منه نفسه على الله ،ويعطيها من طاقاته الروحية والفكرية ،ومن قوّة إرادته عنصر قوّة يدفعها إلى الأمام ،ولذلك لم تكن الرسالة خاضعةً لاختيار الناس وتمنياتهم ،بل هي خاضعةٌ لإرادة الله واختياره ،فهو{أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ،في ما يعلمه من الطاقات الروحية والفكرية والعملية والقيادية الكامنة في ذواتهم مما لا يعلمه الناس من أنفسهم ،ولا يعلمه غيرهم منهم .
فأين يذهب هؤلاء في تفكيرهم ؟إنها عقدة الكبرياء التي تكبر في صدورهم عندما يتطلعون إلى الأنبياء فيجدونهم في الطبقة السفلى من الهرم الاجتماعي ،فيدفعهم ذلك إلى احتقارهم ،واحتقار دورهم ،وتكذيبهم ومحاولة تحدّيهم بأيّة طريقةٍ ،حتّى بالأمور التي لا تثبت أمام النقد ،ولذلك فإن الله سيجزيهم عن هذه المشاعر وهذه الادّعاءات وذلك الكبرياء ،صغاراً وذلاً واحتقاراً وعذاباً ،{سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ} في ما يُظهرهم به أمام الخلائق يوم القيامة من حالة الذلّ والانسحاق{وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} لأن مكرهم وانحرافهم لم ينطلق من حالةٍ فكريّةٍ قد تبرّر لهم ذلك ،بل من حالةٍ شيطانية ،يفهمون كل خطواتها ومنطلقاتها ودوافعها ،ما يجعل من تصرفاتهم ،حالةً إجراميةً معقّدةً تستوجب العقوبة الشديدة والعذاب الأليم .
وقد يلاحظ البعض أن الصَّغار الذي يصيب المستكبرين في الحياة الدنيا هو بلحاظ أن الآية تتحدث عن الحياة الدنيا ونتيجة الصراع في الأرض ،ولا مانع من أن يكون عامّاً في الدنيا والآخرة ،ما يفرض التركيز على واقع الحياة الدنيا في نتائج الأفعال ،حيث يُنزل الله الهوان والعذاب الدنيوي بمعنى البلاء الذي يصيبهم بفعل سلوكهم المنحرف وموقفهم المضادّ .
وإننا في الوقت الذي لا نجد مانعاً من استنطاق هذه الآية في المعنى الشمولي للصَّغار الدنيوي والأخروي من حيث المبدأ في نتائج المواقف التي يتمثّل فيها التمرّد على الله والعدوان على رسله ورسالته من موقع الاستكبار الذاتي الذي يحكم كل أقوالهم وأفعالهم ،ولكن ظاهر الآية في الحديث عن الصغار والعذاب على مستوى المستقبل قد يوحي بأن المسألة تتحدث عن الآخرة في ما يلاقونه في يوم القيامة ،وقد جاء عن الزجّاج في تفسيره لهذه الفقرة قال: أي سيصيبهم عند الله ذلّ وهوان وإن كانوا أكابر في الدنيا .انتهى .
وهذا ما يؤكّد أن المراد به هو المقابلة بين كبريائهم في الدنيا الذي يدفعهم إلى إنكار الحق والاستعلاء على أهله ،وصغارهم في الآخرة بما يلاقونه من الهوان والعذاب بين الخلائق .وفي بعض الروايات ،كما جاء في تفسير الكاشف: أن المتكبرين يحشرون في صورة الذر يطأهم الناس بأقدامهم جزاءً على تعاظمهم في الدنيا .والله العالم .