/م124
قال عز وجل:{ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ} أي وإذا جاءت أولئك المشركين الذين{ أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} آيةٌ بينة من القرآن تتضمن حجة عقلية ظاهرة الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من التوحيد والهدى قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله إلى الأمم قبلنا .قال هذا أكابرهم المجرمون ، ورؤساؤهم الماكرون ، وتبعهم عليه الغوغاء المقلدون .قال ابن جرير فيه:يعنون حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر وعيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وقال ابن كثير أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل كقوله جل وعلا:{ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} ( الفرقان 21 ) الآية .
فالقول الأول معناه أنهم لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا أوتوا على يديه من الآيات الكونية التي يؤيده الله بها مثل ما أوتي أولئك الرسل عليهم السلام .ومعنى القول الآخر أنهم لا يكونون مؤمنين بالرسالة مطلقا إلا إذا صاروا رسلا يوحى إليهم ، وهذا أقرب إلى قوله تعالى في الرد عليهم{ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، وإن كان كل من المعنيين صحيحا واقعا .
قرأ"رسالته "( بالإفراد ) ابن كثير وحفص عن عاصم وقرأها الباقون ( رسالاته ) ( بالجمع ) أي رسالاته إلى رسله .وهذه الجملة من كلام الله تعالى رد عليهم وبيان لجهالتهم ينتظره السامع والقارئ بعد حكاية ما تقدم من قولهم ، والوقف قبله تام لأنه آخر قولهم المحكي عنهم .
قال الحافظ ابن كثير:أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه كقوله تعالى:{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك ؟} ( الزخرف 31- 32 ) الآية يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم من القريتين ، أي مكة والطائف وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون الرسول صلوات الله وسلامه عليه بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا ، كقوله تعالى مخبرا عنه{ وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون} ( الأنبياء 36 ) وقال تعالى:{ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا} ( الفرقان 41 ) وزاد ابن كثير أنهم كانوا مع ذلك معترفين بفضله وشرفه ونسبه وطهارة بيته ومرباه ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه ، وأنهم كانوا يسمونه الأمين ، واستشهد على ذلك بشهادة أبي سفيان لهرقل بصدقه والثناء عليه يوم كان أشد أولئك الأكابر مجاهرة بعداوته ومكرا به ، كأنه يعني أن ما يعلمون من فضائله الذاتية والنسبية والبيتية ينبغي أن يكون مقنعا لهم بأنه أولى من جميع أولئك الأكابر الحاسدين له بالرسالة ، وكل كرامة صحيحة من الحكم العدل العليم الخبير ، ولكن حسد الأكابر وبغيهم وتقليد من دونهم لهم بتأثير مكرهم ، قد كانا هما الباعثين لهم على تلك الأقوال فيه ، والأفعال في عداوته ومعاندته .
وقوله تعالى:{ الله أعلم حيث يجعل رسالته} حجة لأهل الحق على أن الرسالة فضل من الله تعالى يختص به من يشاء من خلقه لا ينالها أحد بكسب ولا يتوسل إليها بسبب ولا نسب ، وعلى أنه تعالى لا يختص بهذه الرحمة العظيمة ، والمنقبة الكريمة ، إلا من كان أهلا لها بما أهله هو من سلامة الفطرة وعلو الهمة وزكاء النفس ، وطهارة القلب ، وحب الخير والحق .وكان أذكياء العرب في الجاهلية على شركهم بالله تعالى يعلمون أن الصادقين محبي الحق وفاعلي الخير من الفضلاء أهل لكرامته تعالى وعنايته كما يؤخذ من استنباط أم المؤمنين خديجة في حديث أم المؤمنين عائشة في بدء الوحي فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لخديجة رضوان الله عليها{ لقد خشيت على نفسي} قالت له:كلا فوالله لا يخزيك الله أبدا:إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق{[994]} هذا لفظ مسلم .
وذكر الرازي أن في قوله تعالى:{ الله أعلم حيث يجعل رسالته} تنبيها على دقيقة حقيقة بالذكر{ وهي أن أقل ما لابد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة من المكر والغدر والغل والحسد ، وقولهم ""لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله "عين المكر والغدر والحسد فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ا ه وذكر ( الرازي ) قبل ذلك أن هذه الآية نزلت في قول الوليد بن المغيرة:والله لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالا وولدا ، ومن المعهود أن يصل الغرور ببعض المغرورين بالمال والقوة على اعتقاد مثل هذا وانتحاله لأنفسهموإن كانت الرواية في كون هذا القول كان سببا للنزول لم تصح .وقيل في سبب نزول غيرهاكما أنه عهد منهم أن يقولوا مثل هذا القول كبرا وعنادا يكابرون بهما أنفسهم ، وخداعا وغرورا يغشون بهما غيرهم ، ولا يهتدي لمثل استنباط خديجة ( رض ) إلا الأفراد من الفضلاء المنصفين .وقد سبق في غير موضع من تفسير هذه السورة تحقيق القول في طلب المشركين للآيات الكونية وفي كبريائهم وحسدهم وغرورهم وكونها هي العلل الحقيقية لكفرهم وجحودهم .
بعد أن رد الله تعالى على أولئك المستكبرين المغرورين ما تضمنه قولهم من دعوى الاستعداد لمنصب الرسالة يخطر في بال القارئ ما يسائل به نفسه عن جزائهم ، فقال تعالى في بيان ذلك:{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} .هذا الوعيد صريح في كون قائلي ذلك القول:{ لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} من المجرمين الماكرين الذين مضت سنة الله تعالى أن يكونوا أكابر وزعماء في كل قرية دب فيها الفساد ، وكان أهلها مقاومين للإصلاح .وفيما ذهبنا إليه من عود مكرهم عليهم بعقاب الله تعالى إياهم في الآخرة باضطراد ، وفي الدنيا حيث يمكرون بالرسل ويصدون عما جاءوا به أو ما يقرب مما جاءوا به من الإصلاح ، وقد قصر الحافظ ابن كثير في اقتصاره على ذكر عقابهم في الآخرة .
الصغار كالصغر ( بالتحريك ) في الأمور المعنوية كالصغر ( بوزن العنب ) في الأشياء الحسية كما قال الراغب وقد فسروه بالذلة والهوان ، جزاء على الكبر والطغيان وفسر الراغب الصاغر بالراضي بالمنزلة الدنية وهو أقرب إلى الصواب والتحقيق في تفسير{ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} ( التوبة 29 ) أن المراد بالصغار خضوعهم لأحكامنا .ونقل ابن جرير عن بعض أهل التفسير المأثور أن إعطاءهم إياها هو الصغار ، أي لأنه طاعة وخضوع لغيرهم ، وهناك قولان آخران لهم:أحدهما:ما رواه عن الضحاك أن معناه أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم .وثانيهما:أن يمشوا بها وينقلوها إلى العامل .وليس هذا ولا ذاك بمعنى الصغار في اللغة وإنما أراد قائلوهما أنه يتحقق بهما ولم يريدوا أن اللفظ يدل عليه بوضعه اللغوي .
ومعنى كون هذا الصغار يصيبهم عند الله أنه يحصل لهم في الآخرة إذ كل ما فيها يطلق عليه أنه عند الله باعتبار أنه ليس لأحد من الخلق هنالك تصرف ما ولا تأثير ، لا كالدنيا التي صرف الله فيها الناس أنواعا من التصرف .أو معناه أنه مما اقتضاه حكمه وعدله وسبق به تقديره ، فإن ما هو ثابت عند الله في حكمه القدري التكويني الذي دبر به نظام الخلق وما ثبت في حكمه الشرعي التكليفي الذي أقام به العدل والحق ، يطلق على كل منهما أنه عنده .قال تعالى في أهل الإفك{ فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} ( النور 13} ثم قال فيه{ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} ( النور 15 ) وعلى القول الثاني يصح أن يحصل هذا الجزاء لهم بالصغار على استكبارهم عن الحق في الدار الدنيا قبل الآخرة .وعلى القول الأول يتعين أن يكون في الآخرة ، وحينئذ يكون المراد بالعذاب الشديد ما يصيبهم في الدنيا أو في الدنيا والآخرة جميعا .
قال تعالى:{ كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} ( الزمر 25- 26 ) وقال في عاد قوم هود بعد ما ذكر من استكبارهم وجحودهم{ فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون} ( فصلت 15 ) وعذاب الأمم في الدنيا بذنوبها مطرد ولا يطرد عذاب الأفراد وإن كانوا من المجرمين الماكرين ، ولكن أكابر مجرمي مكة الذين تصدوا لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له قد عذبوا في الدنيا كالخمسة المستهزئين الذين قيل إن السياق السابق في طلب الآيات الذي يعد هذا السياق تابعا له نزل فيهم لأنهم رؤساء المجرمين ( راجع آخر ج 7 وأول ج 8 ) وقتل منهم في بدر كما هو معروف في السيرة النبوية .