وقوله:( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي:إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة ، قالوا:( لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ) أي:حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة ، كما تأتي إلى الرسل ، كقوله ، جل وعلا ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا ) [ الفرقان:21] .
وقوله:( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) أي:هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه ، كما قال تعالى:( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك ) الآية [ الزخرف:31 ، 32] يعنون:لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجل في أعينهم ( من القريتين ) أي:مكة والطائف . وذلك لأنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بغيا وحسدا ، وعنادا واستكبارا ، كما قال تعالى مخبرا عنهم:( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون ) [ الأنبياء:36] ، وقال تعالى:( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ) [ الفرقان:41] ، وقال تعالى:( ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) [ الأنعام:10] . هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه . وطهارة بيته ومرباه ومنشئه ، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه:"الأمين "، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار "أبو سفيان "حين سأله "هرقل "ملك الروم:كيف نسبه فيكم؟ قال:هو فينا ذو نسب . قال:هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال:لا . الحديث بطوله الذي استدل به ملك الروم بطهارة صفاته ، عليه السلام ، على صدقه ونبوته وصحة ما جاء به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن شداد أبي عمار ، عن واثلة بن الأسقع ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم "
انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي - وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام - به نحوه .
وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه "
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن المطلب بن أبي وداعة قال:قال العباس:بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس ، فصعد المنبر فقال:"من أنا؟ "قالوا:أنت رسول الله . قال:"أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة . وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا ، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا "صدق صلوات الله وسلامه عليه .
وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال لي جبريل:قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم "رواه الحاكم والبيهقي . وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو بكر ، حدثنا عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته . ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ .
وقال أحمد:حدثنا شجاع بن الوليد قال:ذكر قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن سلمان قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا سلمان ، لا تبغضني فتفارق دينك "قلت:يا رسول الله ، كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال:"تبغض العرب فتبغضني "
وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية:ذكر عن محمد بن منصور الجواز ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي حسين قال:أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه ، فقال:من هذا؟ قالوا:ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال:( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) .
وقوله تعالى:( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد ، لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به ، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله ) صغار ) وهو الذلة الدائمة ، لما أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذلا كما قال تعالى:( إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) [ غافر:60] أي:صاغرين ذليلين حقيرين .
وقوله:( وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد جزاء وفاقا ، ( ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف:49] ، كما قال تعالى:( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق:9] أي:تظهر المستترات والمكنونات والضمائر . وجاء في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ، فيقال:هذه غدرة فلان ابن فلان "
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل .