قوله تعالى:{قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ما استفهامية في موضع رفع مبتدأ .
والجملة الفعلية من{منعك} في محل رفع خبر المبتدأ .وألا ،في موضع نصب مفعول منعك .ولا زائدة .والتقدير: ما منعك أن تسجد .وإذ ،ظرف زمان{[1345]} وهذه الآية مما استدل به كثير من الأصوليين على أن الأمر المطلق يفيد الوجوب على الفور ؛لأن الله ذم إبليس على ترك المبادرة .ولو لم يكن الأمر للفور لما استحق إبليس الذم على التأخير ،ولكان له أن يقول: إنك لمن تأمرني بمبادرة السجود على الفور .وقد خاطب الله هذا المخلوق الشقي محتقرا إياه ،وتقدير ذلك أنه: أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك بالسجود له ؟وذلك أن إبليس كائن غريب يختلف اختلافا أساسيا عن سائر الكائنات الأخرى ،فغنه هو وجنوده من شياطين الجن ذوو جبلة مستعصية ،فطرت على الخبث والنزوع للشر والفسق .
ذلك هو إبليس وجنوده من شياطين الجن .إنهم لا أمل ف هدايتهم البتة ؛لأنهم أولو طبائع خاوية شريرة ،محفلة بالعتو والجحود ،غاية في الالتواء والشذوذ .
وهم إنما يجنحون بطبيعتهم في كل آن للإفساد والتضليل والإغواء .
ومما يدل على هذه الحقيقة الراسخة ،ما أجاب به إبليس اللعين ؛ربه إذا قال{أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ومثل هذا الجواب لا يصدر إلا عن كائن لئيم مقبوح ،جبل على الشر والباطل .ومن يجترئ على مثل هذا الجواب اللئيم المتوقح العاتي لرب العالمين إلا كائن لعين أثيم كإبليس ينطق بهذه المقولة في وقاحة لا تبلغها وقاحة الأشرار والعتاة إلا في مثل إبليس الرجيم .
قوله:{أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} ذلك اجتراء فاضح من إبليس على ربه ،إذ يقول في اغترار جهول أحمق إنه أفضل من آدم ؛لأنه مخلوق من نار لكن آدم خلق من طين .والنار أشرف من الطين وهو قياس فاسد وسخيف يتعلل به هذا الكائن الشقي أمام حضرة الإلهية .والله جل وعلا حقيق بامتثال لأمره دون تردد ،وخليق أن تخر له الجباه والنواصي وتخشع لجلاله وجبروته القلوب الأشر{[1346]} من إبليس بتفضيل النار على الطين مع أنهما كليهما مخلوق لله .بل إنهما معا من جملة المخاليق التي تسبح بحمد الله على الدوام فلا تفتر .