قوله:{ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمالهم} تأويل ذلك: أن إبليس سوف يسول لبني آدم الكفر والعصيان بكل صوره وأشكاله .ولسوف يزين لهم الضلال والباطل بكل الأسباب والوسائل وبمختلف طرقه وأساليب في التزيين والإغراء والإغواء ليودي بهم في النهاية إلى الجحيم فيكونوا شركاءه في النار ؛إذ يلتقي الكافرون الظالمون في جموع حاشدة كاثرة وهم من مجرمي الجن والإنس ليكونوا جميعا في خندق الخزي والعذاب .إن إبليس يتدسس إلى بني آدم من كل مكان أو موقع ،ومن كل جهة أو ناحية ،ومن كل سبيل أو درب ليستنفر في كيانهم نزعة الشر ،وليستثير فيهم الشهوات والغرائز فيميلوا كل الميل فإذا هم منزلقون في هاوية الضلال والباطل .
وقيل: المراد بقوله: من بين أيديهم: من الدنيا ،ومن خلفهم: من الآخرة ،وعن أيمانهم ،من قبل الحق ،وعن شمائلهم: من قبل الباطل .
أما إتيانهم من قبل الدنيا ،فهو أن يدعوهم إلى لذائذها ومباهجها وزيتنها وكفى: فيرغبون فيها عما سواها .وأما إتيانهم من قبل الآخرة فهو أن يشككهم فيها ليرتابوا في قيام الساعة فيكونوا في زمرة الجاحدين الكافرين .وأما إتيانهم من قبل الحق أو الحسنات فهو أن يزهدهم فيها .وإتيانهم من قبل الباطل أو السيئات فهو ترغيبهم في الاستغراق في الباطل والاستكثار من السيئات والمعاصي .
قوله:{ولا تجد أكثرهم شاكرين} أي لا تجد أكثر بني آدم موحدين لك أو ذائعين لأمرك أو شاكرين لك نعمتك التي أنعمت عليهم .وذلك بسبب إغوائهم ،وإزلاقهم في الخطيئة والعصيان .ولقد قال ذلك إبليس على سبيل الظن ؛لقوله تعالى في آية أخرى:{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} كذلك كان ظن إبليس في ابن آدم ؛إذ يعلم مبلغه من الضعف .ضعف العزيمة والإرادة والاحتمال .ويعلم من فطرته المركوزة في عميق كيانه انه نزاع للشهوات فلا تهفو نفسه أو تصبو في الغالب إلا الرغائب الجسد من الطعام والشراب والزينة والاستمتاع والتلذذ بمختلف اللذائذ .وهو لا يضبطه دون الإسراف في ذلك ضابط مقتدر إلا أن يركن إلى عقله المتدبر البصير .ولا يتحقق ذلك إلا قليلا .فوازع العقل في معترك الملذات واستمتاع الأجساد بالغ الضعف والهوان في مقابلة الدوافع المتأججة للغرائز والشهوات .ومن هنا وجد إبليس ضالته في الاقتدار على إغواء الإنسان .أعاذنا الله من إغواء إبليس وجنوده عوذا .