قوله تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} أمر الله بالإعداد للحرب بمختلف آلاتها ووسائلها من أجل أن يقاتل بها المسلمون أعداءهم من الكافرين على اختلاف مللهم الضالة .على أن الأمر بالإعداد إنما يكون في حدود الطاقة المقدورة للمسلمين ؛لأنه{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وهو هنا قوله:{ما استطعتم من قوة} وهذا يدل على وجوب الإعداد بأقصى ما يستطيعه الإنسان .فإن أعد ما دون طاقته كان مقصرا ولم تبرأ ذمته من فريضة الإعداد للجهاد .
أما القوة المبينة في الآية: فغنها تفيد بإطلاقها كل وجوه الآلات للحرب ،وكل ما يلزم لقتال الظالمين من وسائل ومعدات .على أن آلات الحرب على اختلاف صورها وضروبها تقوم في الأغلب على فن الرمي كيفما كان شكله أو كيفيته .سواء في ذلك الرمي البدائي القديم بالقوس ،أو الرمي المتطور في الزمن الراهن بالقذائف النارية المندفعة بقوتها الهائلة سواء في البر أو البحر أو الجو ؛فغن ذلك كله أساسه الرمي حيث القوة الدافعة التي تقذف بالأداة لتدمير الهدف المراد .
وفي التركيز على القتال بالرمي أخرج مسلم عن أبي علي ثمامة بن شفي أخي عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر:{واعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا إن القوة الرمي ،ألا إن القوة الرمي ،ألا إن القوة الرمي ) .
قوله:{ومن رباط الخيل} الرباط ،اسم للخيل التي تربط في سبيل الله .وقيل: الرابط بمعنى المرابطة وهي ملازمة ثغر العدو .وقيل: الرابط ،الخيل الخمس فما فوقها{[1684]} .
وفي قوله:{ومن قوة من رباط الخيل} ما يثير البهر والإعجاب لكمال هذا الكتاب الحكيم الذي يتسم بسمو المستوى سواء في جمال النظم ،أو كمال المغنى ،يستبين ذلك جليا إذا أدركنا شمول المراد بالإعداد سواء كان ذلك في الأزمنة الفائتة التي يناسبها الإعداد برباط الخيل .فقد كانت الخيل العنصر الأهم في عناصر الحرب وآلاتها في الزمن السابق ،وكان المتقاتلون إنما يعولون عليها أبلغ تعويل فيما تقتضيه طبيعة الظروف الماضية .لكن إطلاق القوة في الآية هنا يعم كل وجوه الآلات للحرب .بما يشمل الوسائل القتالية المتطورة تطورا مذهلا في عصرنا الراهن .وهذا هو شأن القرآن في علو مستواه ؛إذ يخاطب أذهان البشرية وآفاقها في كل زمان حتى يظل القرآن إلى أبد سابقا للأذهان والآفاق ،محيطا بالأدهار والأزمنة جميعها ،وذلكم الإعجاز .
قوله:{ترهبون به عدو الله وعدوكم} أي تخيفون بقوة السلاح والمرابطة أعداء الله وأعداءكم ؛فهم مشتركون في العداوة .فمن عادي دين الله وأهله من المسلمين لا جرم أنه معاد لله سبحانه .وهؤلاء كثيرون منتشرون في كل بقاع الأرض التي يعيث فيها الظالمون الجناة أبشع صنوف الإفساد والتخريب .وهم بعدوانهم وطغيانهم ومجاوزتهم كل حسبان ومعقول لا تجدي معهم المجادلات والمحاورات القائمة على المنطق الهادئ المعقول .ولا تردعهم أساليب الموادعة واللين .إنما يردعهم التخويف بقوة السلاح على اختلاف أنواعه وضروبه ،وذلك هو ديدن الأشرار الظالمين من شياطين البشر الذين لا يصيخون إلا لما يروعهم ترويعا ويرهبهم ترهيبا .وذلك بوسائل القتال الفتاكة التي تثخن هؤلاء المجرمين إثخانا يفضي إلى خزيهم وإخراسهم .
قوله:{وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} والمراد بالذين من دونهم موضع خلاف ؛فقد يقل: إنهم المنافقون .وقيل: إنهم فارس والروم .وقيل: اليهود .والراجح أن المراد عموم من لا تعرف عداوته من أصناف البشر المحفل بالحقد من الذين تتقاطر قلوبهم كراهية للإسلام والمسلمين ؛فهم على مر الزمن يتربصون بهم المهالك والدوائر ويكيدون لهم المكائد والمؤامرات في كل الأحيان .وهذا ديدن الخصوم المبغضين للمسلمين منذ أن أشرقت شمس الإسلام على الدنيا حتى يومنا هذا والأعداء اللد يعقدون المؤتمرات والمؤامرات تدمير هذا الدين القويم وأهله .
قوله:{وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف لكم} أي ما أنفقتم من مال في شراء أسباب الجهاد وآلة الحرب أو غير ذلك من النفقات التي تقتضيها مصالح العساكر والجند من الطعام واللباس والدواء ،فإن ذلك كله يخلفه الله على عباده المنفقين في الدنيا مع ما يدخره لهم في الآخرة من عظيم الأجر والتكريم والرضوان .
قوله:{وأنتم لا تظلمون} أي لا يضيع الله أجر من أنفق منكم .بل إن الله يخلفكم من جزيل العطاء والمثوبة عوضا عما أنفقتموه .