ولكن هزيمة الدنيا لا بد لها من أسباب يقوم بها العباد بتوفيق الله تعالى ، والتوكل عليه سبحانه بعد الاستعداد بالعدة ، وأخذ الأهبة والعزيمة والصبر ؛ ولذا قال تعالى:
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} .
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} ، هذا أمر تكليفي وهو فرض كفاية على الأمة الإسلامية يجب على الأمة كلها أن تتعاون في إعداد هذه القوة ، بالدربة ، والتعليم والرمي ، وكل ما يربي الجند القوى .
فلا بد من التربية على الجندية ، وإعداد عدة القتال ، وذلك بالمستطاع بل بأقصى ما يستطاع ، ومن هنا بيانية في قوله:{ من قوة} وهي تدل على عموم القوى ، فأعدوا كل ما يمكن أن يكون قوة في الحرب من دربة على الرمي بالسهام ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( ألا إن القوة الرمي ) ( 1 ){[1184]} ، كما روى عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كان الراوي نفسه وهو عقبة بن عامر راميا حتى لقد مات وعنده سبعون قوس رمي ، ومن القوة الحصون ، ومن القوة المنجنيق ، وهكذا ك ما يكون سببا للقوة ، ومنها من الماضي النار الإغريقية ، ولم تكن معروفة عند العرب ، وإن وجدت في الحروب الإسلامية .
فكل قوة مستطاعة يجب على الأمة أن تتضافر على إيجادها ، وإلا أثمت كلها ، ولم ينج من الإثم فقيرها وغنيها ولا قويها أو ضعيفها ، فالقادر بقدرته ، والضعيف بلسانه .
وقوله تعالى:{ ومن رباط الخيل} معطوفة على{ من قوة} ، ورباط الخيل جماعة الخيل خمسة فأكثر ، وقال رباط جمع ربيط ، وقيل رباطا مصدر - رابط ،
وأطلق على الخيل ؛ لأن المرابطة تكون بها ، ومهما يكن فالمراد من رباط:الخيل المجتمعة ، وخصت الخيل بالذكر ؛ لأنها كانت قوة الحرب ، في العرب ، وربط الخيل بنواصيها ، فكانت رمز القوة ، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ، ولرجل وزر ، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ، ولا في ظهورها فهو ليس له ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء فهي له وزر ) ( 1 ){[1185]} .
وقوله تعالى:{ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ترهبون أي تخيفون ، وتفزعون وتربون في نفوس أعدائهم المهابة ، وتلقون في قلوبهم الرهبة وسمي الكفار عدو الله ؛ لأنهم كفروا به وكذبوا آياته ، وسماهم ( عدوكم ) لأنهم يريدون بكم الأذى ، ويناصبونكم العداوة لإيمانكم وكفرهم .
وقال تعالى:{ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} وقوله:{ مِن دُونِهِمْ} أي من غيرهم ، أي من غير الذين يجاهرون الآن بعداوتكم من المشركين واليهود وغيرهم ممن يلاقونكم من الرومان الذين يعاصرونكم ، ويشير بهذا إلى الذين يجيئون بعد ذلك الذين لا يعلمهم المسلمون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن والاه والله تعالى يعلمهم ؛ لأنه علام الغيوب ، وإن الله تعالى يشير بذلك إلى الأخلاف الذين يجيئون بعد ذلك ، فإنه بمجرد أن انتشر الإسلام في الأرض ودخل الناس في الدين أفواجا ، صار المسلمون في مذأبة من الأرض ، فأوروبا أرادت أن تنقض على الإسلام من الشرق والغرب . . . . . . . . . . . . . والتتار أخذوا ينقصون على المسلمين الأرض من أطرافها .
وكان لا بد من قوة تقهر وترهب هؤلاء ، وتلقي مهابة المسلمين في قلوبهم ، ولكن مع ذلك لم يستجيبوا لنداء الله ، ولم يعدوا ما استطاعوا من قوة ، وإن ذلك الاستعداد كان يوجب أولا – أن يكون لهم مصانع تصنع لهم الأسلحة لا أن يستعينوا بأسلحة من غيرهم ، إن شاء أعطى وإن شاء منع ، وفي عطائه ومنعه يعمل لمصلحة نفسه ، ولا يريد بالإسلام خيرا .
ويوجب ثانيا:أن ينافسوا الناس في اختراع الأسلحة ليدفعوا أذاهم ، و إلا كانوا – وهم هم المرهوبون – يرهبون ولا يرهبون ، يخافون ولا يخيفون ، وتتبدد قواهم ضياعا .
ويوجب ثالثا:تعاونهم جميعا في ذلك ، حتى لا يؤكلوا في الأرض .
وقد كان عكس ذلك ، فتقطعت وحدتهم ، وضرب الناس بهم في افتراقهم فتوزعتهم الأرض ، وأكلتهم ذئابها ، وصيروا الخير لغيرهم دونهم ، وصاروا لأعداء الله وأعدائهم ما يصنعون به السلاح ليستعمل لإرهابهم ، وإرهاب كل من يعاونهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
هذا وإن إعداد عدة الحرب ، والحرب ذاتها تحتاج إلى المال ، ولذا قال تعالى:
{ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} .
إن الحرب تحتاج إلى نفقات ، وإعداد العدة يحتاج إلى نفقات ، وفي أيامنا تحتاج العدة إلى الإنفاق من الدولة والجماعات ، ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يخرج من ماله كله للجهاد في سبيل الله ، كأبي بكر ، ومنهم من كان يخرج من نصف ماله كعمر ، ومنهم من كان يجهز جيشا بأسره كذي النورين عثمان بن عفان ، وأنى لنا بأمثال هؤلاء من أمراء المسلمين وملوكهم ، وعندهم المال الوفير من أكناز الأرض .
ومن لا ينفق ألقى بنفسه وبقومه في التهلكة ، ولقد قال تعالى في الإنفاق في الحرب:{ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . . . . . . . . . . . . . . . . . ( 195 )} ( البقرة ) .
{ وما تنفقوا} و ( ما ) هنا شرطية ، أي أن تنفقوا ف سبيل الله تعالى ، سبيل الله تعالى هو الجهاد{ يوف إليكم} أي بالبركة في رزقكم وبتسيير الرزق لكم وتسهيل سبل الحياة ، والنماء في أموالكم ، وبعد ذلك الجزاء في الآخرة ، وهي خير وأبقى ، وأوفى وأتم بهذا التفسير الدنيوي والنماء في هذه الحياة ، والجزاء في الآخرة لا يظلمون لا تنقصون شيئا مما قدمتم .