{رِّبَاطِ الْخَيْلِ}: الخيل المرابطة أو المربوطة: الجاهزة للتحرك .
{تُرْهِبُونَ}: تخيفون وتقلقون .
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} لا بد للحق من قوّةٍ في مواجهة التحديات المضادة ،لردع القوى المعادية التي تمنع الحق من ممارسة حريته في الدعوة إلى الإيمان به وبقضاياه ،أو تعمل على تحطيم قوّته وتهديم أركانه ،لأن أسلوب الرفق والحوار لا ينفع مع الذين لا يؤمنون بهذا الأسلوب ،بل يعتبرون العنف القائم على القهر والضغط الماديّ أساساً للسيطرة على الآخرين .ولذلك أراد الله للمؤمنين أن يقوموا بعمليّة إعداد القوة العسكرية بكل ما يملكون من إمكاناتٍ وقدرات مادّية ،فليس لهم أن يدّخروا جهداً في هذا السبيل ،لأن ذلك هو القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها القوة المستقبلة الواثقة بالتماسك والنصر والامتداد ،القادرة على ردّ التحدّي بالتحدي المماثل ،أو بالأقوى منه ...
وإذا كانت القوّة العسكرية في الماضي تتمثل في ما تعارف عليه الناس من أدوات القتال ،من السيف والسهم والرمح والدرع ،فإن العصور المتأخرة قد استحدثت وسائل أخرى كالبندقية والمدفع والرشاش والدبابة ونحوها ،فلا بدّ لنا من أن نحصل على ذلك كله ،إذ لا معنى لأن نتحدث عن الوسائل القديمة التي استنفدت أمام الوسائل الجديدة للحرب ،ولكن لا بد للقرآن من أن يتحدث للناس بالطريقة التي يفهمونها ،وبالأشياء التي يعيشونها ،لأنهم المخاطبون بها في البداية ،ولهذا عقّب الله ذلك بقوله:{وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} باعتبار أنها كانت المظهر للقوة العسكرية المتحركة آنذاك .{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .وبذلك كان الإعداد للقوة تدبيراً وقائياً يرهب العدو ،فيمنعه ذلك من العدوان ،ويدفعه إلى الدخول في معاهدات ومواثيق مع المسلمين ،أو يجعله خاضعاً للسيطرة الإسلامية ،أو يوحي له بالدخول في الإسلام ...
وهكذا تكون القوة الكبيرة البارزة سبيلاً من سبل ردع العدو ومنع الحرب ،مما يجعل منها ضرورةً سياسيةً وعسكريةً معاً ،فيفرض على القائمين على شؤون المسلمين أن لا ينتظروا حالة إعلان الحرب ليستعدوا ،بل لا بد لهم من الاستعداد الدائم في كل وقتٍ ،وذلك تبعاً للظروف الموضوعية المحيطة بالواقع السياسي والعسكري الموجود من حولهم ،من أجل إرهاب عدوّ الله وعدو المسلمين .
{وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} أي ممّن هم أقل منهم درجةً في القوة أو في العداوة ،أو من غيرهم ،{لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} لأنكم لا تحيطون بالساحة كلها في ما تختزن من عداواتٍ وتحدياتٍ في الحاضر والمستقبل ،ممن يحيط بالمسلمين في أكثر من موقع ،ولكن{اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} فيوحي إليكم بضرورة الإعداد الدائم المتحرك ،الذي يرصد تصاعد القوة العسكرية للآخرين ،والاكتشافات الجديدة لأنواع السلاح التي قد تتغيّر في كل يوم ،بحيث تصبح الأسلحة القديمة غير ذات فائدةٍ ،مما يفرض تبديلها دائماً بشكل متحرك .وربما يفرض ذلك الإعداد لإنتاج السلاح ،لأن مشكلة وجود مصانع الأسلحة في أي بلدٍ آخر غير إسلاميٍّ يفرض كثيراً من الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية على البلد المستورد له ،ويجعل نتائج الحرب خاضعةً للسياسة التي يسير عليها البلد المنتج .وهذا ما نلاحظه في العصور المتأخرة التي تحوّل فيها السلاح من تجارةٍ حرةٍ ،إلى تجارةٍ موجهةٍ تابعةٍ للموقف السياسي الذي قد يتحرك من أجل الابتزاز السياسي للبلد المستورد ،بفرض شروطه الخاصة .
ضرورة توفير مقوّمات القوة على كلِّ صعيد
وإذا كان جوّ الآية يوحي بوجوب الاستعداد للحصول على القوّة العسكرية ،فإننا نستوحي منها ضرورة الإعداد للقوة من نوعٍ آخر ،مما تحتاجه الأمة في تطورها العلمي والاجتماعي والاقتصادي في موقعها السياسي بين الأمم الأخرى ،لأن ذلك يحقق لها الاكتفاء الذاتي أو التفوق الواقعي ،الذي يفسح لها المجال للتحرك بقوة من موقع استغنائها عن الآخرين ،أو من موقع حاجة الآخرين إليها ،فنستطيع بذلك أن نتخلّص من الضغوط التي تقيد حريتها في الحركة ،أو تفرض الضغوط التي تحتاجها في علاقاتها بالآخرين ،وهذا ما يُلزم الأمةبجميع أفرادهاأن تستنفر كل طاقاتها في سبيل الوصول إلى المستوى المتقدم في كل المجالات التي تُمثِّل أساس القوة في الحياة ،ولتتخلص من كل نقاط الضعف المفروضة عليها من الداخل والخارج ،فذلك هو السبيل الأفضل لانطلاقة الإسلام بقوّةٍ في حياة الناس في عالمٍ لا يفهم إلا بلغة القوة .فالحق الذي لا يستند إلى القوة لا يرتكز على أساسٍ ثابتٍ متين .
وإذا كان الوصول إلى هذا المستوى من القوة يحتاج إلى الكثير من المال ،فإن على الأمة أن تساهم في ذلك على جميع المستويات ،وأن تعتبر ذلك إنفاقاً في سبيل الله ،لأن رفع المستوى العلمي والعسكري والاقتصادي للأمة هو من أفضل السبل العملية التي تؤدي إلى تدعيم الحق وتفتح طريق الانتصار في المعركة الطويلة ضد الكفر والكافرين ...وقد أراد الله أن يوحي للمؤمنين بأنه سيعوضهم عما أنفقوه في هذا السبيل في الدنيا والآخرة{وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فتأخذونه وافياً غير منقوص ،{وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بل تجدون العدل كله ،والخير كله ،والرحمة الواسعة التي تفتح لكم أبواب الحياة على آفاق الفلاح والنجاح .