{مِن تِلْقَآءِ نَفْسِى}: من جهة نفسي .
مطالب الكفار التعجيزية
ويبقى الحديث حديث الذين لا يرجون لقاء الله ،ولكن من خلال المنطق اللاّمسؤول الذي يحكم طريقتهم في التفكير ،أو من خلال أسلوبهم في الطروحات التعجيزيّة التي يطرحونها على النبيّ في مواجهتهم للقرآن ،فليس هناك فكرٌ يبحث عن نقطة ضعفٍ في فكر آخر ليناقشه أو ليرفضه على أساس ذلك ،وليس هناك موقف يبحث عن الخط الفاصل بينه وبين الآخرين ،ليحدّد موقعه فيه وليعرف أين يلتقي معهم وفي أي مكان يفترق عنهم ،بل كل ما هناك هو الهروب من المشكلة إلى الأمام ومحاولة اللعب على الموقف بأسلوب التعجيز أو السخرية والاستهزاء .ويبقى منطق النبيّ ،منطق العقل والحوار ،الذي يحاول أن يثير أمامهم الأفكار التي توحي لهم بالتأمّل ليقودهم إلى الحوار ،وبالتالي إلى الإيمانالموقف ،بعيداً عن كل انفعالٍ أو عن أي شعور بالسقوط أمام منطقهم ،لأنه يشعر أنه لا يواجههم من مواقعه الذاتية ،بل من مواقعه الرسالية ،وإذا كانت مشاعر الذات لا تتحمل كل هذه الأساليب الساخرة اللاهية العابثة ،فإن مشاعر الرسالة تبقى مع حركة العمق في الداخل لتبحث عن خلفيات الكلمة ،قبل أن ترفضها أو تقبلها ،ولتدرس نتائج الموقف ،قبل أن تحاربه أو تواليه ،لأن الرسالة تتعامل مع مستقبل الإنسان ،إذا كانت الذات تتعامل مع حاضره ،ونحن نعرف أن حركة الحاضر مطوّقةٌ بالانفعالات والتشنّجات الطارئة ،بينما يتحرك المستقبل من خلال الحسابات الدقيقة ،فلننتظر كيف نتابع هذين المنطقين في هاتين الآيتين .
حقيقة مطالب الكفار
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آياتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ} هذا هو العرض السخيف الذي واجهوا به القرآن الذي يتلى عليهم .ولكن لماذا ذلك ؟ماذا في هذا القرآن من نقاط الضعف في مضمونه وأسلوبه ؟وإذا جاء بقرآن غير هذا أو بدّله ،فما الذي يمنعهم من أن يقدّموا الطلب نفسه ،ما دامت القضية خاضعةً للمزاج الذي لا يرتكز على أساس فكريٍّ واضحٍ ،وإذا كانوا يرتابون في مصدر القرآن ،فكيف يتحرك شكهم هذا ؟فهل يفكرون أنه من تأليفه ،أو يفكرون أنه من وحي الله ،أو من صنع إنسان آخر غير الله ؟فإذا كانت الفكرة التي يحملونها أنه من كلام محمد( ص ) ،فإن من الطبيعيّ أن يكون قادراً على أن يأتي بمثله ،كأيِّ كاتبٍ أو شاعرٍ أو مؤلفٍ ،فماذا يحصلون من خلال ذلك ؟أمَّا إذا كانت الفكرة أنه من صنع إنسان آخر ،فالنتيجة هي النتيجة الفاشلة ،لأنه قادر على الاستجابة لهذا التحدي بإقناع الإنسان الآخر بأن يصنع له كلاماً مماثلاً ،أمَّا إذا كانوا ينطلقون من فكرة أنه وحي منزّل ،فإن من الطبيعي عدم استجابته لهم ،لأنه لا يملك ذلك أمام الله ،ولكنهم لا يفكرون في هذا أو ذاك ،بل القضية عندهم أن يسجلوا موقفاً عابثاً مثيراً للسخرية أو ما يشبهها .
ردّ النبي( ص ) الهادىء
ولكن النبيّفي ما علَّمه اللهأراد أن يقودهم إلى المنهج في مواجهته لهذا الطلب ،فناقشه من موقعٍ فكري{قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي} لأني لم أدّع أنه من كلامي ليكون هذا الطلب معقولاً ،بل كانت دعواي أنه من وحي الله ،وإذا كان كذلك ،فكيف أستطيع أن أغيّر وحي الله ،أو أستنزله في أيّ وقتٍ وأمام أي اقتراح ،لأنني رسول مأمور يتقبل الوحي وينفّذ التعاليم .{إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} باعتبار أنه يمثل كلمته الفصل التي لا بدّ لي من الالتزام بها ،في ما تمثله من خط الطاعة التي بها نجاة المطيعين في يوم القيامة ،بينما يمثل خطّ المعصية الهلاك والعذاب ،{إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فلا أستطيع أن أغيّر أو أبدّل ،لأن ذلك لونٌ من ألوان التمرد على الله ،والعصيان لأمره ونهيه .
آراء المفسرين حول طلب الكافرين
وربما أثار بعض المفسرين الوجه في طلبهم من موقعٍ آخر ،فهمأي هؤلاء المحتجوّنلا يوافقون على ما يشتمل عليه هذا القرآن من رفض الشركاء واتّقاء الفحشاء والمنكر ،وربما أرادوا تبديله إلى ما يوافق آراءهم ليقع منهم موقع القبول ،وذلك كالشاعر ينشد من شعره أو القاصّ يقص ،فلا تستحسنه طباع السامعين ،فيقولون: ائت بغيره أو بدّله .
ونحن لا نمانع في احتمال هذا الوجه من الآية ،إلا أننا لا نلاحظ وجود اعتراض على المضمون لديهم من ناحية القرآن ،بمعنى أن المسألة لم تكن مثارةً عندهم من هذه الجهة ،ولو كان الأمر كذلك ،لناقشهم ولردّ عليهم بالحجة التي تثبت فكرتهم ،كما في الآيات الأخرى التي كانت تناقش مسألة الشرك من موقعٍ عقليٍّ أو واقعي ،أو غيرها من المسائل الآخرى ،بينما نرى أنه قد ردّ عليهم بأن المسألة ليست باختياره وإرادته ،بل هو عبد مأمور من قبل الله ،ما يوحي بأن القضية متصلة بالكلام نفسه ،لا بالمضمون بالفكري له .وقد نلاحظ في هذا المجال ،أنه لو واجه المسألة من هذا الوجه ،لكان من المفروض أن يدافع عن الفكرة ،لأنه من أوّل المؤمنين بها ،فكيف ينسحب من ذلك ليجعل المشكلة هي عدم قدرته على التبديل ،لا مسألة اقتناعه بها ،والله العالم .