/م15
{ وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} في الآية التفات عن خطاب هؤلاء الموعوظين إلى الغيبة عنهم ، وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأسلوب الالتفات في القرآن كثير جدا ، وفائدته العامة تلوين الكلام بما يجدد الانتباه له والتأمل فيه ، وفي كل التفات فائدة خاصة ، لو أردنا بيان ما نفهمه منها لطال بنا بحث البلاغة الكلامية ، بما يشغل القراء عن الهداية المقصودة بالذات من تفسيرنا ، ويظهر في هذه الآية أن نكتة حكاية هذا الاقتراح السخيف بأسلوب الإخبار عن قوم غائبين إفادة أمرين:
أحدهما:إظهار الإعراض عنهم ، كأنهم غير حاضرين ؛ لأنهم لا يستحقون الخطاب به من الله تعالى .
ثانيهما:تلقينه صلى الله عليه وسلم الجواب عنه بما ترى من العبارة البليغة التأثير ، والمعنى:وإذ تتلى على أولئك القوم آياتنا المنزلة حالة كونها بارزة في أعلى معارض البيان ، وأظهر مقدمات الوحي والبرهان .
{ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وهم من تقدم ذكرهم قريباواضعا إياه موضع الضمير للإشعار بعلة القولأي قالوا لمن يتلوها عليهم- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم-{ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} ، الأظهر في سبب قولهم هذا أنه صلى الله عليه وسلم بلّغهم أن هذا القرآن من عند الله أوحاه إليه لينذرهم به ، وتحداهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا ، وكانوا في ريب من كونه وحيا من الله لبشر مثلهم كما تقدم في أول السورة ، وفي ريب من كونه من عند محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو لم يكن يفوقهم في الفصاحة والبلاغة ولا في شيء من العلم ، بل كانوا يرونه دون كبار فصائحهم من بلغاء الشعراء ومصاقع الخطباء ، فأرادوا أن يمتحنوه بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره ، في جملة ما بلغهم من سوره في أسلوبها ونظمها ودعوتها ، أو بالتصرف فيه بالتغيير والتبديل لما يكرهونه منه ، كتحقير آلهتهم وتكفير آبائهم ، حتى إذ فعل هذا أو ذاك كانت دعواه أنه كلام الله أوحاه إليه منقوضة من أساسها ، وكان قصارى أمره أنه امتاز عليهم بهذا النوع من البيان بقوة نفسية فيه كانت خفية عنهم ، كأسباب السحر ، لا بوحي الله إليه ، وهو ما يزعمه بعض الإفرنج ومقلدتهم في عصرنا ، وقد فندناه في تفسير الآية الأولى من هذه السورة .
{ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي} أي قل لهم أيها الرسول:إنه ليس من شأني ولا مما تبيحه لي رسالتي أن أبدله من تلقاء نفسي ، أي بمحض رأيي ومقتضى اجتهادي ، وكلمة تِلقاء -بكسر التاء - مصدر من اللقاء ، كتبيان من البيان ، وكسر التاء فيهما سماعي ، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال .
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} أي ما اتبع فيه إلا تبليغ ما يوحى إلي والاهتداء به ، فإن بدل الله تعالى منه شيئا بنسخه بلّغته عنه ، وما عليّ إلا البلاغ المحض ، وأقول:إذا كان الله لم يعط رسوله الحق في تبديل القرآن ، فما حكمه تعالى فيمن يبدلونه بأعمالهم المنافية لصدق وعده لأهله -وهم يدعون أنهمأهله- كالذين قال فيهم{ يريدون أن يبدلوا كلام الله} [ الفتح:15] ، أو بترك أحكامه لمذاهبهم كالذين قال فيهم{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [ البقرة:181] ؟
{ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هذا تعليل لمضمون ما قبله ، الذي هو بيان لنفي الشأن الذي قبله ، أي إني أخاف إن عصيت ربي -أي عصيان كان- عذاب يوم عظيم الشأن- وهو يوم القيامة- فكيف إذا عصيته بتبديل كلامه اتباعا لأهوائكم ؟ وقوله:( إن عصيت ) من باب الفرض ، إذ الشرطية المبدوءة بأن يعبر بها عما شأنه ألا يقع .وهذا جواب عن الشق الثاني من اقتراحهم .