/م13
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بعدهم} الخطاب معطوف على الذي قبله ، أي ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعد أولئك الأقوام كلهم ، بما آتيناكم في هذا الدين من أسباب الملك والحكم ، وقدرناه لكم باتباعه ، إذ كان الرسول الذي به جاءهم هو خاتم النبيين ، فلا يوجد بعد أمته أمة أخرى لنبي آخر ، والخلائف جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أي يكون خلفه فيه ، ولقد كان لتلك الأمم دول وحكم في الأرض ، كملك النصارى واليهود والمجوس والوثنيين من قبلهم كالفراعنة والهنود ، فالله يبشر قوم محمد وأمة محمد بأنها ستخلفهم في الأرض إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه ، كما صرح بذلك في قوله:{ وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [ النور:55] الآية .
وقد علل هذا الاستخلاف عند الإخبار الأول به هنا بقوله{ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} ، أي لنرى ونشاهد أي عمل تعملون في خلافتكم ، فنجازيكم به بمقتضى سنتنا فيمن قبلكم ، فإن هذه الخلافة إنما جعلها لكم لإقامة الحق والعدل في الأرض ، وتطهيرها من رجس الشرك والفسق ، لا بمجرد التمتع بلذة الملك ، كما قال في أول آيات الإذن لهم بالقتال{ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} [ الحج:41] فأعلمهم سبحانه بأن أمر بقاء خلافتهم منوط بأعمالهم ، وإنه تعالى يكون ناظرا إلى هذه الأعمال لا يغفل عنهم فيها ، حتى لا يغتروا بما سينالونه ، ويظنوا أنه باق لهم لذاتهم أو لنسبتهم إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنهم يتفلتونه من سنته في الظالمين- وقد بينها لهم آنفا - وقال في سورة الأعراف{ أَولَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} [ الأعراف:100] الآية ، وقد قص علينا فيها ما حذر به قوم موسى عند ما وعدهم على لسانه بإرث الأرض التي وعد بها آباءهم في إثر ما شكوا إليه من إيذاء قوم فرعون لهم قبل مجيئه وبعده ، وذلك قوله تعالى حكاية عنه{ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [ الأعراف:129] .
وليراجع القارئ تفسير آية الأعراف في الجزء التاسع ، وتفسير قوله تعالى في استخلاف الأمم العام من آخر سورة الأنعام{ وهُو الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [ الأنعام:165] الآية ( ج 8 ) ، وقد صدق الله وعده ووعيده للمسلمين –كغيرهم- بما تبين به إعجاز كتابه وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكونه ربى أمته بما علمه ربه من هداية الدين وطبائع العمران وسنن الاجتماع التي لم يكن يعلمها هو ولا قومه الأميون ، بل لم تصر علما مدونا إلا من بعد نزول القرآن بعدة قرون ، لغفلة علماء المسلمين عما فيه من أصولها وقواعدها الصريحة كهذه الآيات .وقد كان أول من دونها المؤرخ الفقيه عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه مؤملا أن يعنى بها من بعده من العلماء ، فيأتوا بتوسيع ما بدأ به من مباحثها ، ولكن العلم والحكم في دولة الإسلام كان داخلا في طور الانحطاط والاضمحلال ، ثم ارتقى الإفرنج فيهما فترجموا تلك المقدمة بلغاتهم العلمية كلها ، وأخذوا منها عدة علوم في سنن العمران ، ونحن نأخذها اليوم عنهم غافلين عن هداية القرآن ، لأن علماء السوء المقلدين حجبونا عن هدايته ؛ بل حرموها على المسلمين استغناء عنه بكتب مذاهبهم ، فأخذهم الله بذنوبهم ، ولن يكشف عنهم انتقامه حتى يعودوا إلى هدايته التي استخلف بها سلفهم في الأرض ، ولئن عادوا إليها بإقامة سنن القرآن ليتمن لهم وعده بخلافة الأرض إلى آخر الزمان ، فبقدر إقامة هذه السنن يكون الملك والسلطان .فمن ذا الذي يقيمها ؟