/م13
فقال عاطفا له على ما قبله{ ولَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} الخطاب لأمة الدعوة المحمدية ، وجه أولا –وبالذات- إلى قوم النبي صلى الله عليه وسلم وأهل وطنه مكة ، إذ أنزلت السورة فيها ، فهو التفات يفيد مزيد التنبيه وتوجيه أذهان المخاطبين لموضوعه ، والقرون الأمم -وهو جمع قرن بالفتح - ومعناه القوم المقترنون في زمن واحد ، وقد ذكر إهلاك القرون في آيات عديدة من السور المكية ، وبدأ هذه بتأكيد القسم المدلول عليه باللام ( ولقد ) ، وصرح بأن سبب هلاكهم وقوع الظلم منهم كما قال في سورة الكهف{ وتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [ الكهف:60] ، و "لما "ظرف يدل على وقوع فعل لوقوع غيره مما هو سبب له ، والمراد بالقرى الأمم والقرون كما تقدم مرارا ، وقال في سورة هود{ وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [ هود:102] وقد بعث الله الرسل في أهل الحضارة دون الهمج .
وإهلاك الله الأمم بالظلم نوعان:
( أحدهما ) هو مقتضى سنته في نظام الاجتماع البشري ، وهي أن الظلم سبب لفساد العمران وضعف الأمم ، ولاستيلاء القوية منها على الضعيفة استيلاء موقتا - إن كان إفساد الظلم لها عارضا لم يجهز على استعدادها للحياة واستعادتها للاستقلال- كما تقدم في تفسير{ فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [ البقرة:243] من سورة البقرة ، أو دائما - إن كانت غير صالحة للحياة حتى تنقرض أو تدغم في الغالبة - كما قال في سورة الأنبياء{ وكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} [ الأنبياء:11] الآيات ، وهذا النوع أثر طبيعي للظلم بحسب سنن الله في البشر ، وهو قسمان:ظلم الأفراد لأنفسهم بالفسوق والإسراف في الشهوات المضعفة للأبدان المفسدة للأخلاق ، وظلم الحكام الذي يفسد بأس الأمة في جملتها ، وهذه السنة دائمة في الأمم ، ولها حدود ومواقيت تختلف باختلاف أحوالها وأحوال أعدائها هي آجالها المشار في الآية ( 49 ) الآتية وأمثالها .
ثانيهما:عذاب الاستئصال للأقوام التي بعث الله تعالى فيها رسلا لهدايتها بالإيمان والعمل الصالح وأعظم أركانه العدل ، فعاندوا الرسل فأنذرهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيء الآيات ، وهو ما بينه تعالى بقوله:{ وجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} الدالة على صدقهم فيما جاءوهم به .
{ ومَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما كان شأنهم ولا متقاضى استعدادهم أن يؤمنوا لأنهم مرنوا على الكفر واطمأنوا به ، وصارت لذاتهم ومصالحهم القومية من الجاه والرياسة والسياسة مقترنة بأعمالهم الإجرامية من ظلم وفسق وفجور .
{ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} تذييل لإنذار مشركي مكة ؛ لأنهم كانوا مجرمين ، وتقديره كالذي مر قبله في المسرفين ، وراجع تفسير{ وكذلك نجزي المجرمين} [ الأعراف:39] ، وتفسير{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [ الأعراف:83] من سورة الأعراف .