/م11
{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} هذا بيان لغريزة الإنسان العامة ، وشأنه فيما يمسه من الضر ، يعلم منه أن استعجال أولئك الناس بالشر تعجيزا لنبيهم ومبالغة في تكذيبه إنما هو من طغيانهم الذي خرجوا فيه عن مقتضى طبيعتهم ، فهو يقول:إن الإنسان إذا أصابه من الضر ما يشعر بشدة ألمه أو خطره- من إشراف على غرق وغيره من أنواع التهلكة ، أو شدة مسغبة ، أو إعضال داء- دعانا ملحا في كشفه عنه في كل حال يكون عليه:دعانا مضطجعا لجنبه ، أو قاعدا في كسر بيته ، أو قائما على قدميه حائرا في أمره ، فهو لا ينسى حاجته إلى رحمة ربه ، ما دام يشعر بمس الضر ولذعه له ، ويعلم من نفسه العجز عن النجاة منه ، قدّم من هذه الحالات الثلاث ما يكون الإنسان فيها أشد عجزا وأقوى شعورا بالحاجة إلى ربه ، فالتي تليها ، فالتي تليها ، وثم حالة رابعة هي سعيه لدفع الضر من طريق الأسباب فلم تذكر ؛ لأن الإنسان غير المؤمن قلما يتذكر ما أودع في فطرته من الإيمان بربه - ذي السلطان الغيبي الذي هو فوق جميع الأسباب- ويشعر بحاجته إلى اللجوء إليه ، ودعائه والاستغاثة به إلا عند عجزه عن الأسباب المسخرة له ، والمشركون بالله تعالى أقل الناس تذكرا لذلك ؛ لأنهم عند عجزهم عن الأسباب العامة المعلومة يلجؤون إلى مظنة الأسباب الموهومة ، وهي المخلوقات المعبودة التي يعتقدون أن لها سلطانا غيبيا فوق الأسباب من جنس سلطان الرب الخالق عز وجل ، إما لذاتها وإما بما لها من المكانة عند الله ، والمثل مضروب هنا لهؤلاء .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} كان الظاهر أن يقال: "فإذا كشفنا عنه ضره "، إذ هو المناسب للشرط في أول الآية ، وهو في جنس الإنسان ومقتضى طبعه لا في فرد من أفراده ، ونكتة هذا التعبير أن يتصور القارئ والسامع للآية كشف الضر بعد الدعاء واقعا مشاهدا من شخص معين ، ويرى ما يفعل بعده لأنه أبلغ في العبرة ، أي فلما كشفنا عند ضره - الذي دعانا له في حال شعوره بعجزه عن كشفه بنفسه وبغيره من الأسباب- مرّ ومضى في شؤونه على ما كان من طريقته في الغفلة عن ربه والكفر به ، كأن الحال لم تتغير عليه ، فلم يدعنا إلى ضر مسه ، ولم نكشف عنه ضره .
{ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كهذا النحو من معرفة الله والإخلاص في دعائه وحده في الشدة ، ونسيانه والكفر به بعد كشفها ، زين للمسرفين من طغاة مكة وغيرهم ما كانوا يعملون من أعمال الشرك ، حتى بلغ من عنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم واستهزائهم بما أنذرهم من عذاب أن استعجلوه بالعذاب ، والإسراف رديف الطغيان وأخوه ، وسيأتي مثل هذه الآية بعد عشر آيات ببيان أبلغ .وقد أسند التزيين هنا إلى المفعول ؛ لأنه المقصود بالعبرة دون فاعله .وسبق مثله في آل عمران والأنعام والتوبة ، وقد أسند إلى الشيطان في سورة الأنعام والأنفال ، وأسند إلى الله تعالى في الأنعام أيضا بقوله:{ زينا لكل أمة عملهم} [ الأنعام:108] وبينا في تفسير هذه نكتة اختلاف الإسناد في كل موضع ( راجع ج 8 تفسير الطبعة الثانية ) .