/م11
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب أو المقدر له أو الموعود به ، والاستعجال به طلب التعجيل ، والعجل من غرائز الإنسان القابلة للتأديب والتثقيف كي لا تطغى به فتورده الموارد .قال تعالى:{ ويَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [ الإسراء:11] ، وقال تعالى:{ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [ الأنبياء:37] ، فأما استعجاله بالخير والحسنة فلشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها ، وأما استعجاله بالضر والسيئة فلا يكون لذاته ؛ بل لسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز ، وقلما يكون مقصودا بنفسه إلا للنجاة مما هو شر منه ، كما يفعل اليائسون من الحياة ، أو النجاة من ذل وخزي أو ألم لا يطاق إذ يتقحمون المهالك أو يبخعون أنفسهم انتحارا .
قال تعالى:{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} الذي يستعجلونه به ، كاستعجال مشركي مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذاب- الذي أنذرهم نزوله بهم إجمالا- بما قصه عليهم في هذه السورة وغيرها من سنة الله تعالى في أقوام الرسل المعاندين ، وهو عذاب الاستئصال ، وفيما دونه من عذاب الدنيا ، كخزيهم والتنكيل بهم ونصره عليهم ، أو قيام الساعة ، وعذاب الآخرة .وقد حكى الله تعالى كل ذلك عنهم كقوله:{ ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ} [ الرعد:6] الآية ،{ ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ولَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ ولَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً} [ العنكبوت:53] وتقدم قوله:{ وإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُو الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [ الأنفال:32] وقال في الساعة{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا والَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ويَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [ الشورى:18] وفي العذاب{ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [ العنكبوت:54] وكل هذه الضروب من الاستعجال كانوا يقصدون بها تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغة في التكذيب واستهزاء بالوعيد وقوله:
{ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْر} معناه كاستعجالهم بالخير الذي يطلبونه لذاته بدعاء الله تعالى ، أو بمحاولة الأسباب التي يظنون أنها قد تأتي به قبل أوانه .
{ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} قرأ ابن عامر ويعقوب الجملة بالبناء للفاعل ، أي لقضى الله إليهم أجلهم ، وقرأها الجمهور بالبناء للمفعول للعلم بالفاعل ، وقضاء الأجل إليهم انتهاؤه إليهم بإهلاكهم قبل وقته الطبيعي ، كما هلك الذين كذبوا الرسل واستعجلوهم بالعذاب من قبلهم .ولكن الله تعالى أرحم بهم من أنفسهم ، وقد بعث رسوله محمدا خاتم النبيين رحمة للعالمين ، بالهداية الدائمة إلى يوم الدين ، وقضى بأن يؤمن به قومه من العرب ، ويحملوا دينه إلى جميع أمم العجم ، وأن يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا بما يكون تأديبا لسائرهم ، بما بينه بقوله:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ ويُخْزِهِمْ ويَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [ التوبة:14] الآية ، ويؤخر سائر الكافرين منهم ومن غيرهم إلى يوم القيامة ، فهو لا يقضي إليهم أجلهم بإهلاكهم واستئصالهم ، لأن هذا العذاب إذا نزل يكون عاما ؛ بل يذرهم وما هم فيه إلى نهاية أجالهم وذلك قوله:
{ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الطغيان مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان ، هذا هو الأصل ، وطغيان السيل والبحر والدم مستعار منه .والعمه ( كالتعب ) التردد والتحير في الأمر أو في الشر .والمعنى فنترك الذين لا يرجون لقاءنا- ممن تقدم ذكرهم- فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب يترددون فيه متحيرين ، لا يهتدون سبيلا للخروج منه ، لا نعجل لهم العذاب في الدنيا باستئصالهم ، حتى يأتي أمر الله تعالى في جماعتهم بنصر رسوله عليهم ، وفي أفرادهم بقتل بعضهم وموت بعض ، ومأواهم النار وبئس المصير ، إلا من تاب وآمن منهم ، أي هذه سنتنا فيهم لا نعجل شيئا قبل أوانه المقدر له بمقتضى علمنا وحكمتنا .
وفي الآية وجه عام غير خاص بالكافرين تقديره:ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه بذنوبهم المقتضية له -من ظلم وفساد في الأرض وفسوق- لأهلكهم ، كما قال في آية أخرى{ ولَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بما كسبوامَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ولَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [ النحل:61] الآية ، ويدخل في المعنى هنا دعاؤهم على أنفسهم عند اليأس ، ودعاء بعضهم على بعض عند الغضب ، لو يعجله الله لهم لأهلكهم أيضا ، وما دعاء الكافرين بربهم- أو بنعمه عليهم- فيما يخالف شرعه وسننه في خلقه إلا من ضلال ) أي ضياع لا يستجيبه الله لهم ، لحمله ورحمته بهم .