النفس الإنسانية في ضرائها وسرائها
قال تعالى:ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون11 وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون 12 ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وماكانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين13 ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون 14
في هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه وتعالى لطفه بعباده وإجابته لهم عند الاستغاثة به ، وبيان الذين لا يرجون لقاء الله تعالى ، وأنه أمهلهم ليتدبروا إن كان فيهم من يفقه ويدرك ، وابتدأ سبحانه ببيان أنه يعجل الخير ولا يعجل الشر .
وفي قوله:{ ولو يعجل الله للناس الشر}-"لو"هنا حرف امتناع فهي تتضمن النفي ، ينفي الله أن يجعل وينفي سبحانه جواب الشرط أيضا وهو{ لقضي إليهم أجلهم} أي ينهي أجلهم لأنه سبحانه لا يستعجل الشر ولا يعجله كاستعجالهم للخير .
وليس الشر هنا ما يفسد أو يضر إنما يراد به ما يسوؤهم ولو كان عدلا وجزاء وفاقا لما يفعلون ، والمعنى ولو كان الله يعجل لهم ما يسوؤهم ويهددهم به وينذر من عذاب أليم –كالرجفة أو ريح فيها عذاب أليم أو يجعل عالي الأرض سافلها أو يغرق كغرق قوم نوح- لانتهت آجالهم ، وهذا معنى{ لقضي إليهم} ، وكانت –إلى – بدل اللام للدلالة على أن قضاء الأجل هو إنهاؤه ويتحقق فيهم قوله تعالى:{ خلق الإنسان من عجل . . .37}( الأنبياء ) والخير الذي يستعجلون الله وأنفسهم فيه ليس هو الخير في ذاته ولكنه الخير لأنفسهم – سواء أكان حلالا أو كان حراما ، وإن الله لا يعجل السيئة التي تسوؤهم أو النازلة التي تنزل بهم إملاء لهم ، عسى أن يكون من ظهورهم من يعبد الله ، ولذا قال سبحانه لمشركي العرب:
{. . . .سنستدرجهم من حيث لا يعلمون182 وأملي لهم إن كيدي متين183}( الأعراف ) .
فالإهمال ليس إهمال ولكنه أولا:لتمكينهم من أن يعملوا صالحا إن أرادوا وثانيا:ليكون الجزاء الأوفى إذا استمروا في ضلالهم ، وثالثا:ليعرفوا العبر .
وفي قوله:{ فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} ( الفاء ) للإفصاح عن شرط مقدم ، أي إذا كنا لم نعجل لهم العذاب الدنيوي- نذرهم في طغيانهم .
( نذرهم ) ، أي نتركهم لاهين عامين عن الحق وعن البعث غير مدركين ، وعبر سبحانه بالموصول:{ الذين لا يرجون لقاءنا} للإشارة إلى أن السبب في استمرار طغيانهم وتجاوزهم أنهم لا يتوقعون لقاء الله تعالى وتلقى الجزاء فيخافون ، أو تلقى الثواب فلا يطغون ، ولكن المناسب هنا هو جزاء الطغيان إذ هو المذكور .
والطغيان هو تجاوز الحد والاعتداء على الأشخاص فيسيرون وراء أهوائهم وشهواتهم وطغيانهم لا يقفون عند حد من الحدود فيرتكبون ما شاءت لهم أهواؤهم بعد أن جعلوا هواهم .
{ يعمهون} أي يتخبطون ويتحيرون ، ومنشأ الحيرة أن فطرهم تدعوهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ولكنهم يطمسونها بأهوائهم وملذاتهم وسلوكهم ، فهم في حيرة نفسية ، وإن من الحيرة إيمانهم بأن الله خالق كل شيء وأنه المستعان عند الشدائد ، وهو إذا أغاثهم عادوا كما بدأوا ، كما يقول تعالى:{ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون 12}