/م7
{ دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} في هذه الآية بيان لكلمات ثلاث تمثل حياة أهل الجنة الروحانية في عامة أحوالهم من مبادئ دعاء ربهم وتنزيهه ، وما يدعونه- أي يطلبونه- من فضله وكرامتهم ومن تحيته تعالى وتحية ملائكته لهم ، ومن تحيتهم فيما بينهم عند تزاورهم أو تلاقيهم ، ومن حمدهم له في خواتيم أقوالهم وأفعالهم ، وهي خير الكلم وأخصره وأعذبه .
الدعوى في اللغة الدعاء بمعانيه ، والدعاوة في الشيء والادعاء للشيء ، فالدعاء للناس هو النداء والطلب المعتاد بينهم في دائرة الأسباب المسخرة لهم ، والدعاء التعبدي لله نداؤه وسؤاله والرغبة فيما عنده الصادر عن الشعور بالحاجة إليه والضراعة له فيما لا يقدر عليه أحد من خلقه ، ولاسيما دفع الضر وجلب النفع مما يعجز عنه العبد من طريق الأسباب ، للإيمان بأنه سبحانه هو المسخر لها والهادي إليها والقادر على تصريفها ، وعلى المن بها من غير طريقها ، والدعوى للشيء تشمل في اللغة تمنيه وقوله وطلبه من مالكه ، وادعاء ملكيته ، وهذه المعاني كلها للفظ الدعوى تصح إرادتها من أهل الجنة -إلا الأخير منها- وقول بعض المفسرين وغيرهم:إن من معاني الدعاء العبادة لا يصح على إطلاقه في العبادة الشرعية التكليفية ، فإن الصيام لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا ، وإنما الدعاء هو مخالعبادة الفطرية ، وأعظم أركان التكليفية منها- كما ورد في الحديث- فكل دعاء شرعي عبادة ، وما كل عبادة شرعية دعاء .والتسبيح تنزيه الله تعالى وتقديسه ، وكلمة ( اللهم ) نداء له عزّ وجلّ أصله يا الله .
والمعنى أنهم يبدؤون كل دعاء وثناء يناجون به الله عزّ وجلّ -وهو النعيم الروحاني- وكل طلب لكرامة أو لذة من لذات الجنة -وهو النعيم الجسماني- بهذه الكلمة:سبحانك اللهم ، أي تنزيها وتقديسا لك يا الله ، قيل:أو بما تدل عليه ، وإن كان بلفظ آخر ، وأن تحيتهم فيها كلمة ( سلام ) الدالة على السلامة من النقص والآثام ، وهي تحية المؤمنين في الدنيا ، وهذه التحية تكون منه عزّ وجلّ لهم كما قال في سورة الأحزاب{ تحيتهم يوم يلقونه سلام} [ الأحزاب:44] ، وفي سورة يس{ سلام قولا من رب رحيم} [ يس:58] ، وتكون من الملائكة لهم عند دخول الجنة كما قال في سورة الزمر:{ وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [ الزمر:73] ، ومثله في سورة النحل{ الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [ النحل:32] ، وفي كل وقت يدخلون فيه عليهم كما قال في سورة الرعد{ والمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار} [ الرعد:ِ 23 24] ، وتكون منهم بعضهم لبعض وهو المتبادر من قوله تعالى في سورة مريم{ لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما} [ مريم:62] ، وفي سورة الواقعة{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً ولَا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} [ الواقعة:2526] ، فإن اللغو والتأثيم من شأن كلام البشر ، فلما نفى وقوعهما منهم في الجنة واستدرك على نفيه باستثناء كلمة"سلام "استثناء منقطعا ترجح أن يكون المراد به سلام بعضهم على بعض أو عاما يشمله .والجملة في آيتنا{ وتحيتهم فيها سلام} تشمل الأنواع كلها ، وإنه لإيجاز بليغ غفل عنه من نعرف من المفسرين لغفلتهم عن هذه الأنواع .
وأما قوله:{ وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فمعناه أن الحمد له جلّ ثناؤه هو آخر كل حال من أحوال أهل الجنة من دعاء يناجون به الله تعالى ، ومطلب يطلبونه من إحسانه وإكرامه ، كما أنه أول ثنائهم عليه عند دخولها ، كما قال في آخر سورة الزمر بعد آية السلام عليهم من الملائكة{ وقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وعْدَهُ وأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [ الزمر:74] ، وآخر كلام الملائكة أيضا ، وهو قوله بعده{ وتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [ الزمر:75] .
فعلى كل قارئ لهذه الآية الجامعةوقد فسرناها له هنا بما في معناها من الآيات في السور الأخرى أن يمثل لنفسه حالة أهل الجنة في هذه الكلمات الثلاث المبينة لنعيمهم الروحاني بلقاء الله عزّ وجلّ ومناجاته في جميع أطوارهم ، ولما يكون بينهم وبين ملائكته وبين بعضهم مع بعض ، ومنه يعلمون أن معظم نعيم الجنة روحاني ، فعليهم أن يستعدوا لها بتزكية أنفسهم ، وترقية أرواحهم ، وأن يعلموا أنهم لن يكونوا أهلا لها بالاتكال على التوسلات بأشخاص الأولياء والتمني لشفاعتهم{ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ولاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ ولِيّاً ولاَ نَصِيراً* ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُو مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ولاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [ النساء:123 124]{ ومَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُو فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وأَضَلُّ سَبِيلاً} [ الإسراء:72] .
ومن التفسير المأثور ما أخرجه ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا عن أهل الجنة"إذا قالوا:سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة "وروي مثله عن بعض التابعين ، فالكلمة علامة بين أهل الجنة وخدمهم في إحضار الطعام وغيره ، فإذا أكلوا حمدوا الله تعالى .وهذا مما يدخل في عموم ما تقدم سواء أصحت الرواية أم لا ؟