/م15
ثم لقنه الجواب عن الشق الأول مفصولا لأهميته بقوله:{ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} أي لو شاء الله تعالى أن لا أتلو عليكم هذا القرآن ما تلوته عليكم ، فإنما أتلوه بأمره تنفيذا لمشيئته .
{ ولاَ أَدْرَاكُم بِهِ} أي ولو شاء أن لا يدريكم ويعلمكم به بإرسالي إليكم لما أرسلني ولما أدراكم به ، ولكنه شاء أن يمن عليكم بهذا العلم الأعلى لتدروه ، فتهتدوا به وتكونوا بهدايته خلائف الأرض ، وقد علم أن هذا إنما يكون به ، لا بقرآن آخر كما قال{ لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [ النساء:166] ، وقال:{ ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [ الأعراف:52] [ راجع تفسير هذه وما بعدها في ج 8 تفسير] ، فهو قد أنزله عالما بأن فيه كل ما يحتاجون إليه من الهداية وأسباب السعادة ، وأمرني بتبليغه إليكم ، ولم يكن لي علم بشيء من ذلك قبله .
{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} أي فقد مكثت فيما بين ظهرانيكم عمرا طويلا من قبله ، وهو أربعون سنة لم أتل عليكم فيه سورة من مثله ، ولا آية تشبه آياته ، لا في العلم والعرفان ، ولا في البلاغة ورعة البيان .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن من عاش أربعين سنة لم يقرأ فيها كتابا ، ولم يلقن من أحد علما ، ولم يتقلد دينا ، ولم يعرف تشريعا ، ولم يمارس أساليب البيان ، في أفانين الكلام ، من شعر ونثر ، ولا خطابة وفخر ، ولا علم وحكم ، لا يمكنه أن يأتي من تلقاء نفسه بمثل هذا القرآن المعجز لكم ، بل هو يعجز جميع الخلق ، حتى الدارسين لكتب الأديان والحكمة والتاريخ أن يأتوا بمثله ؟ فكيف تقترحون عليّ أن آتي بقرآن غيره ؟ وسيتحداهم في الآية 38 بسورة مثله .
ومما يمتاز به الوحي المحمدي على ما كان قبله أن أكثر أنبياء بني إسرائيل كانوا قبل نبوتهم على شيء من العلم الكسبي- كما بيناه في مباحث الوحي القريبة- وفاتنا فيها التذكير بما أوتي بعضهم من العلم -والحكم الوهبي قبلها أيضا- قال تعالى في موسى{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واسْتَوى آتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً} [ القصص:14] ، وبلوغ الأشد يكون في استكمال الثلاثين ، وذكر بعد هذا خروجه إلى مدين ، ونزل الوحي عليه في أثناء عودته منها .وكان موسى على علم بشرائع المصريين ومعارفهم أيضا ، وقال تعالى في يوسف{ ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً} [ يوسف:22] ، ولم يقل:واستوى ، فالظاهر أنه قبل النبوة أيضا ، وكان العلم الذي امتاز به يوسف تأويل الأحاديث والرؤى ، أي الأخبار بمآلها ، وقال في يحيي{ وآتيناه الحكم صبيا} [ مريم:12] ، ولم ينقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة علم ولا حكم في الأمور اللهم إلا حكمه في تنازع زعماء قريش عند بنائهم الكعبة:أيهم يضع الحجر الأسود في مكانه من الركن ، وكادوا يقتتلون ، فطلع عليهم ، فقالوا:هذا الأمين نحكمه ونرضى بحكمه:أي لأنه أمين صادق لا يحابي .فحكم بوضعه في ثوب يأخذ سيد كل قبيلة ناحية منه ، ثم ارتقى هو إلى موضعه من الركن فرفعوه إليه فوضعه فيه .والخبر من مراسيل السير لم يرد مرفوعا ، وأخرجه البيهقي عن ابن شهاب الزهري ، وقد عبر عنه بكلمة غلام ، وفي السيرة الحلبية أن سنه صلى الله عليه وسلم كانت عند بناء الكعبة خمسا وثلاثين سنة .
هذه حجة عقلية ناهضة ، على بطلان شبهتهم الداحضة ، التي بنوا عليها مطالبة محمد صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا القرآن ، وقد ظهر لعلماء هذا العصر ما أيد دلالتها العلمية ، فإنهم -بما حذقوا علم النفس وأخلاق البشر وطباعهم ، وما عرفوا من درجات استعدادهم العلمي والعقلي باستقراء تاريخهم- قد حققوا أن استعداد الإنسان العقلي للعلوم ، واستعداده النفسي للنهوض بالأعمال القومية أو العالمية ، يظهر كل من الاستعدادين فيه من أوائل نشأته ، ويكون في منتهى القوة والظهور بالفعل عند استكمال نموه في العقدين الثاني والثالث من عمره ، فإذا بلغ الخامسة والثلاثين ولم يظهر نبوغه في علم من العلوم التي سبق اشتغاله بها ، ولا النهوض بعمل من الأعمال العامة التي كان استشرق لها ، فإن من المحال أن يظهر منه شيء من هذا أو ذاك من بعدها جديدا آنفا ويكون فيه نابغا ناجحا .
وقد قدمنا في مباحث إثبات ( الوحي المحمدي ) أن هذا القرآن مشتمل على تمحيص الحقائق في جميع العلوم والمعارف الدينية والتشريعية التي يتوقف عليها صلاح جميع البشر ، وأن الرسول الذي أنزله الله عليه قام بتنفيذ هذا الإصلاح بما غير وجه الأرض ، وقلب أحوال أكثر أممها فحولها إلى خير منها ، وأن ذلك كله كان بعد أربعين سنة قضاها في الأمية .فهذا العلم الجديد الذي أيد حجة القرآن العقلية في هذا العصر له في علوم القرآن نظائر أشرنا إلى بعضها آنفا ، وبينا كثيرا منها في تفسيرنا هذا ، وهو مما يمتاز به على جميع التفاسير بفضل الله تعالى ، وإن كان أكثر المسلمين غافلين عنه تبعا لغفلتهم عن القرآن نفسه ، وعدم شعورهم بالحاجة إلى هدايته ، بصد دعاة التقليد المعممين إياهم عنه ، ومن الغريب أن ترى أساطين المفسرين لم يفهموا من الآية أن فيها جوابا عن الشق الأول من اقتراح المشركين وهو الإتيان بقرآن آخر ، وقد هدانا الله تعالى إليه مع برهانه بفضله ، وكم ترك الأول للآخر ! !