{ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون 16} وفي هذا تأكيد أنه من عند الله تعالى ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبدله من تلقاء نفسه وإنما الذي يبدله هو الله تعالى كقوله:{ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} مفعول المشيئة محذوف دل عليه ما بعده- أي لو شاء الله تعالى ألا أتلوه ما تلوته ، وذكر قوله تعالى:{ عليكم} للإشارة إلى أنهم المقصودون بالتلاوة ليدركوا مغزاها وما فيها من إعجاز وتكليف ، ثم قال تعالى:ولا أدراكم} أدراكم أفعل من ( درى ) بمعنى علم ، أي:ولا أعلمكم به ، ولكنه اختار تلك الحجة لكم لبلاغة كلامها الذي يبقى مسجلا تتلقاه الأجيال جيلا بعد جيل إلى يوم الدين ، فالمعجزات الحسية واقعات تنتهي بانتهاء زمانها ، أما هذا الكتاب فباق إلى يوم القيامة ؛ لأنه معجزة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم الذي يقول:"ما من نبي إلا أوتى ما مثله آمن عليه البشر وإن ما أوتيته وحيا أوحى إلي وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"{[1296]}{ ولا أدراكم} قرأه ابن كثير بلام التوكيد وليس بلا النافية ، فيكون المعنى ولو شاء لأعلمكم به وجعلكم تؤمنون بصدقه ، والواو عاطفة على نية تكرار الفاعل ثم بين سبحانه صفات النبي صلى الله عليه وسلم في الصدق والأمانة وشرف النفس مما يوجب تصديقه فقال تعالى:{ فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} أميا صادقا لا أقول شعرا ، ولا كنت خطيبا فيكم ، ولقد علمتم قولي وكيف اختلف عما أتلوه عليكم ، وقد كنت وإياكم في بلد أمي لا علم فيه ولا درس ، لم أمارس علما أو ألق عالما ، ثم قرأت عليكم كتابا أعجزكم بيانه وفصاحته وما فيه من علم غزير بالحلال والحرام والأخبار الصادقة ، وقصص فيها العبرة لمن يعتبر ، هكذا كان عمري فيكم قبل البعث .
{ أفلا تعقلون} أفلا توازنون بين الحاضر ، وبين ماض لا يتفق وما جئتكم به .
وإن توجيههم إلى الماضي النبوي الكريم يدل على أمرين:
أولهما – أنه صادق شريف ينبغي الإيمان بقوله ، وأنه لا يدعي باطلا وأولى به ألا يكذب على الله إذ كان لم يكذب قط قبل .
ثانيهما- أنهم عرفوا كلامه وأنه كان بليغا ، وأنه لم يقرض شعرا ، ولم يرق منيرا ، فهذا الذي يتلى ليس من نوع كلامه ولا يمكن أن يكون من كلام أحد .
وقوله تعالى:{ أفلا تعقلون}( الفاء ) متأخرة عن تقديم ، مترتبة على ما قبلها وأخرت لمكان الاستفهام من الصدارة ، والاستفهام إنكاري بمعنى نفي الوقوع ، داخل على نفى ، وهو ( لا ) ونفي النفي إثبات ، فهو تحريض على التفكير والتدبر وألا يركب الشيطان رءوسهم فيهملوا عقولهم ويكونوا قوما بورا .
وهكذا كل من أهمل القرآن وتركه يريد معجزة أخرى:{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون21}( الحشر ) .