مواجهة النبي( ص ) لتكذيب الكافرين
والآن كيف يواجه النبيّ الموقف ،وما هو الأسلوب الذي يتبعه معهم ؟هل هو أسلوب التشنّج والانفعال ،بالمزيد من السباب والشتائم ،أو هو أسلوب الرفق الذي يرتكز على الدراسة الواعية لشخصية الإنسان في ما يتطلع إليه الدعاة إلى الله من مواجهته بالحقيقة الحاسمة ،لتكون بمثابة الصدمة التي تهز الفكر ،من دون أن تثير المشاعر ،لأنها تستهدف تحديد الموقف من الفكرة ،لا تحديد الموقف من الإنسان ،لتستعيده إلى الساحة ولو بعد حين ؟إن القرآن يطرح الأسلوب الثاني ،لأن الدعوة لا تتعقَّد من الآخرين ،بل تفكِّر بهم ولهم ،وتستجيب لكل مواقع الخير المستقبلي في أعماق فكر الإنسان وروحه ،فتفسح له المجال للتراجع من دون الشعور بعقدة الذات .
{وَإِن كَذَّبُوكَ} فلم يستجيبوا لك ،ولم يقبلوا بإرادة الحوار معك والتفكير في ما عرضته عليهم من حقائق الإيمان ،{فَقُل لِّي عَمَلِي} الذي أقتنع بصلاحه وأتحمَّل مسؤوليته{وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} الذي تحملتم مسؤوليته بوعيٍ أو بدون وعيٍ ،فكل واحد منا يواجه الموقف من خلال مواقعه الفكرية والعملية ،من دون أن يضرّ أحدٌ أحداً في النتائج السلبيّة لذلك ،ومن دون أن ينفع أحدٌ أحداً في النتائج الإيجابيّة له ،{أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ} كما تفعلون الآن في ما تواجهونه من كفرانٍ وتكذيب{وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} لأنه يبتعد عن خط الحق الذي يريد الله للحياة أن تسير عليه ،وللناس أن يأخذوا به .
ولعل هذا الأسلوب يمثِّل الأسلوب الواقعيّ الذي يواجه به كل صاحب فكر حقّ ،أصحاب فكر الباطل ،فيشعر معه بالطمأنينة والثقة والتخفُّف من ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه ،إذا أدّى ما عليه من واجب ،في ما طرحه من أفكار وما مارسه من وسائل الهداية ،سواء كان هؤلاء من ذوي قرباه ،أو من أصدقائه ،أو من الناس البعيدين عنه ،فلا يشعر بعقدة الذنب أمامهم ،ولا يعيش انفعال المشاعر من خلالهم ،لأن الحياة رسالةٌ وإِرادةٌ وقدرة ،فإذا بلَّغ رسالته بالوسائل الملائمة ،وأكّد إرادته بالمواقف القويَّة ،وأعطى كل طاقته ،ولم يبق عنده شيءٌ مما يقدّمه أو يعطيه ،فقد قام بواجبه ،بكل صدقٍ وإخلاص ،وفي ذلك الرضا كل الرضا ،والراحة كل الراحة ،في ما يريده الله له ،وفي ما يطلبه منه .