{غُمَّةً}: كربة .
{اقْضُواْ إِلَيَّ}: أي افرغوا من أمركم .
اتل عليهم نبأ نوح
وهذا جانبٌ من جوانب قصة نوح مع قومه ،في ما يمثله من قوّة موقف النبوة أمام خصومها ،فليس هناك ضعفٌ في العزيمة ،ولا خللٌ في الإرادة ،ولا ارتباكٌ في الحركة ،بل هي الرسالة الواثقة بنفسها المطمئنة إلى سلامة مواقعها ،المتحركة باستقامةٍ واتزان إلى هدفها ،ولذلك لم يكن لموقفه هذا طابع الجانب الشخصيّ الذي يتجمد عند التجربة المحدودة في نطاق الزمان والمكان .وفي ضوء ذلك ،كان الله يريد لرسوله محمد( ص ) أن يتبنى هذا الموقف في مواجهته لحالة التحدي العنيفة التي تتمثل في موقف قومه ،ليكون ردّ التحدّي فعلاً متحركاً مستمراً في خط الرسالات ،لا ردَّ فعلٍ من خلال حالةٍ طارئة ،فهو انطلاقة الرسالة في حركة الصراع المستمر بين الكفر والإيمان منذ بدأ الأنبياء يقفون في الساحة من أجل دعوة الناس إلى اللهالحق ،ولذلك فقد كانت أدوات الصراع واحدة في طبيعة الشخصية ،ونوعيّة الكلمات ،وحيويّة الأساليب ،وفاعليّة الحركة ،وصفاء الروح ،وطيبة القلب ،ورهافة الشعور ،وصلابة الموقف .
تجربة نوح مع قومه
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} من أجل أن تعرّفهم موقفك من خلال موقفه ،ليعرفوا أسلوب الرسالة في المواجهة في أسلوبك معهم ،من خلال المقارنة بينه وبين أساليب الأنبياء ،{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} فاعتبرتموه شيئاً كبيراً على مشاعركم وأوضاعكم ،فاستثقلتموه ،ورأيتم أنفسكم في موقف قويٍّ لا يسمح للآخرين الذين لا يملكون موقعاً اجتماعيّاً متقدماً في سلّم الطبقات الاجتماعيّة ،أن يواجهوا علية القوم بالدعوة إلى الله ،وبذلك كان موقفكم مني سلبيّاً في دعوتي إيّاكم إلى الانسجام مع خط الرسالة ،{وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} التي تفتح قلوبكم على الحقيقة من أقرب طريق ،وتوجّهكم إلى الخير في موارده ومصادره ،وتربطكم بخط المسؤوليّة الذي يبدأ في حركته الصاعدة من بداية حياة الإنسان لتنتهي إلى يوم القيامة في مواجهة نتائجها بين يدي الله ،ليكون العمل منطلقاً في أجواء الرسالة وآفاق الله .
وبذلك كان هذا التذكير المستمر الذي لا يمثل حالةً شخصيةً تنطلق من تجربةٍ خاصّةٍ ،بل يمثِّل وحياً إلهيَّاً ينطلق من وحي الله ليثير الإنسان نحو التفكير الذي يقوده إلى محاكمة الأشياء ودراستها ومناقشتها بشكلٍ موضوعيّ هادىءٍ ،ليتحرك نحو إدارة الحوار مع الآخرين من موقع مسؤوليّة الفكر على أساس قضيّة المصير في ما يتصل بحياته وحياة الناس من حوله .
وتلك هي مهمّة الرسول ،أن يفتح العقول للتأمّل والتفكير ،وأن يفتح الساحة للحوار والمناقشة ،بعيداً عن كل الضغوط النفسية والعمليّة ،لأنه هو الذي يتحمل مسؤولية شق الطريق إلى الهدف ،فلا يمكن أن يتراجع تحت تأثير أيّة حالةٍ مضادةٍ ،ولهذا وقف نوح معهم الموقف الذي يوحي بالقوّة المرتكزة على قاعدة التوكل على الله ومواجهة كل التحديات في الساحة من قبلهم{فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} في موقفي في حركة الرسالة نحو الدعوة والتغيير مهما كانت ردود فعلكم{فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} في ما تملكونه من طاقاتٍ بشريّةٍ ذاتية أو مساندة{ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي مستوراً ،بل واجهوا الموقف بكل سلبياته التي تثيرونها بكل وضوحٍ وصراحة{ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} واستعملوا كل ما يقع تحت أيديكم من وسائل الضغط ولا تمهلوني ساعة .وهذا هو ندائي الأخير إليكم لتسمعوا ولتستجيبوا لنداء الله ،ولتهتدوا بهداه ،