لقد أراد أن يتحمل المسؤولية ،التي لم يطلبها يوسف لنفسه ،بل كانت تكليفاً من الملك في ما نستوحيه من التأكيد على مكانته المفضلة لديه ،وإعلانه الثقة بأمانته .وهكذا اقترح يوسف عليه أن يعهد إليه بمسؤولية الجانب الاقتصادي ،لأنه يملك المؤهلات والخبرة التي تمكنه من إنجاح خطته المرسومة لتخفيف الأعباء الثقيلة التي تواجه البلد ،{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأرضِ} وهكذا طلب من الملك أن يعهد إليه أمر حفظ وتدبير الشأن المالي على مستوى الصرف والرعاية ،وإدارة الموارد والمصادر ،بما يملكه من علم ،وكأنّه يريد أن يقول له: إنه سيكون في مستوى الثقة التي وضعها فيه .
وهكذا كان ،فقد عهد إليه الملك إدارة الشؤون الاقتصادية للبلد ،وأصبح بذلك في موقع كبير يستطيع من خلاله ،تحقيق هدفه في إقامة العدل ،ورعاية المستضعفين ،فهو ليس من الذين يزحفون إلى المواقع المتقدمة في المجتمع ،أو في الدولة ،لأجل طموحات ذاتية ،ولو كان يسعى إلى شيء من هذا القبيل لاستطاع تخفيف الكثير من الآلام التي تحملها في السجن ،وفي خارجه كي يبقى في ساحة الإيمان ،بعيداً عن كل أجواء الانحراف ...إنه صاحب رسالة ،ولهذا فإنه يعمل على توفير الامتداد لها في حياة الناس من خلال بعض المواقع المتقدمة في الدولة .
بين الإصلاح الجزئي والحل الشامل
ونستطيع أن نستوحي من هذا الموقف ،أن بإمكان المؤمنين الاستفادة من بعض الفرص السياسية والاجتماعية التي تمنحهم حرية الحركة ،وتسهّل لهم أمر تطبيق مبادىء الإسلام في بعض مجالات الحياة ،فلا يجب عليهممن وجهة النظر هذهأن ينتظروا إقامة الدولة التي تخطط للساحة كلها ،بل يمكنهم أن يعملوا على سدّ بعض الفراغات ،وحلّ بعض المشاكل ،واحتلال بعض المواقع ،التي تمكّنهم من إصلاح بعض قضايا الواقع ،لأن الله يريد للإنسان أن يساهم في حل ما يمكن حلّه ،دون انتظار للحل الشامل .
ولكنّ سلوك مثل هذا التوجه ،يتوقف على ألاّ تكون فرصة الحل الكامل جاهزةً على الطريق ،ولا تحتاج سوى بعض الخطوات التنفيذيّة للوصول إليها ،فإن الموقف حينئذ يتبدل باتجاه العمل على رفع كل الحواجز التي تعيق الوصول إلى الهدف الكبير ،وبذلك يكون الإصلاح الجزئي عملاً غير صحيح ،لأنه يعطّل الحركة السريعة نحو تحقيق النتائج الكبيرة ،ويجمّد حالة التوتر الضروري لدفع عملية الوصول .إننا نريد استيحاء هذا المبدأ من قصة يوسف ،في مواجهة الرأي القائل بضرورة الابتعاد عن مؤسسات المجتمع غير المؤمن ،ويؤكد على الثورة الشاملة ،ويرفض الإصلاح الجزئي بقطع النظر عن الظروف التي قد تفرض تأخير الوصول إلى الثورة الشاملة .