{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} ،أي: أخرس{لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ،لا يملك أيّة قدرةٍ ذاتية في نفع نفسه ،أو نفع الآخرين .{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} ،ثقيلٌ عليه في ما يتحمله من أموره وحاجاته التي لا يستطيع القيام بأيّ شيء منها ؛لتخفيف العبء عنه ،فهو يعتمد عليه في كل الأشياء ،{أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} ؛لعدم امتلاكه العقل الذي يستطيع به إدراك الحسن من القبيح في القضايا المتعلقة بالواقع من حوله وبالآخرين ؛ليحدد موقفه منها ،كما لا يملك السمع الذي يستطيع أن يستوعب فيه التوجيهات ،ولهذا فإنه لا ينفع صاحبه في ما يوجهه إليه من أعمال ،بل ربما يأتي بالشرّ وهو يظن أنه الخير ،ويتحرك نحو القبيح وهو يحسب أنه الحسن .وهذه هي الصورة المظلمة ،صورة الإنسان الأخرس الذي لا ينطق ،وقد لا يكون ممن يسمع ،العاجز الذي يمثل وجوده عبئاً ثقيلاً على مولاه ،ولا يجلب له أيّ خير في أيّ طريق يتوجه إليه .وهناك صورة أخرى تتميز بالإشراق:{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ،وهو الإنسان العاقل الذي يعي جيداً واقع الناس والحياة من حوله ،فيميز بين الاستقامة والانحراف ،وبين العدل والظلم ،ويتدخل لتقويم انحراف الواقع ،ولقيادة الناس إلى خط العدل ،بالكلمة وبالموقف ،ليجلب لهم الخير ،في ما يمثله العدل من معنى الخير ،أو يدفع عنهم الشرّ في ما يمثله الظلم من معنى الشرّ ،وهذا هو الإنسان القادر على الخير والعامل في سبيله ،{وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} في فكره وفي عمله .وإذا كان البعد بين هذين الرجلين بهذا الوضوح ،ما يجعل اختيار الإنسان الأول أمراً لا معقولاً ،لا بد معه من اختيار الإنسان الثاني الذي يعطي الحياة معنىً كبيراً ،ويحقق لها المنافع على أكثر من صعيد .فكيف تكون الحال عندما يقف الإنسان بين صورة الإنسان العاجز ،والذي لا يتحرك من موقع الخير ،ولا يملك القدرة النافعة ،وبين صورة الخالق الذي يعطي الحياة وجودها وقوّتها واستقامتها في خط العدل ..أو عندما يقف بين صورة الداعية إلى الكفر والضلال الذي لا يقدم للحياة أيّ خير ،بل يأخذ منها ولا يعطيها ،ويضرّها ولا ينفعها ،وبين صورة الإنسان الذي يسير على الخط المستقيم ،ويأمر بالسير على خط الاستقامة ،ويحقق للحياة النفع الكبير من جهده ومن فكره ،هل يستويان ؟وربما كان جوّ هذه الآية هو الجو نفسه الذي توحي به الآية الكريمة:{أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [ يونس: 35] .
وهذه هي المعادلة القرآنية التي تقضي بالوقوف مع الذين يأمرون بالعدل ويسيرون على الخط المستقيم الذي يصل بالناس إلى الأهداف الكبيرة في الحياة ،وهو الأمر الذي يحدد للإنسان المسلم الموقع السياسي الذي يتحرك فيه ،أو ينطلق منه ،في انسجامه مع خط العدل ،وارتباطه بالمصلحة العليا للإنسان على مستوى نهايات الأمور لا بداياتها .وذلك هو الشعار الذي يرفعه المسلم في خطوطه العريضة التي تشير إلى الخطوط التفصيلية في كل مفردات الواقع وجزئياته .