استحضار علم الله أمام الإنسان
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} وبما يصلحكم أو يفسدكم ،ولذلك أمركم بما أمركم به ليصلح أمركم في الدنيا والآخرة من خلال التزامكم به وطاعتكم له ،ونهاكم عما نهاكم عنه ليبعدكم عن إفساد أمركم ومصيركم في الدنيا والآخرة ،من خلال انسجامكم معه وعدم عصيانكم له ،وبذلك فإن عليكم مواجهة المسألة من هذا الخط ،والحذر من الانحراف عنه ،لأن الأمر في كل نتائجه السلبية والإيجابية لله الذي يعلم كل شيء ،ولا يخفى عليه شيء من ذلك كله ،وليس للنبي( ص ) ولا لغيره شيءٌ من أمركم ،في ما يمكن أن يحدث لكم على مستوى المصير ،بل الأمر إليهوحده{إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} فيغفر ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم{أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} بما تستحقونه على مخالفة أمره ونهيه .ثم يلتفت بالخطاب إلى النبي ( ص ) ليقول له: إن مهمته الإبلاغ ،وهي تنتهي عند حصوله منه .
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظاً لأعمالهم ،تتحمل مسؤوليتها وتؤاخذ بانحرافهم .وهذا المعنى الظاهر من الآية يتصل بالآية السابقة ،من خلال ما يستفاد من الإيحاء بذكر الشيطان ،بالانحراف الذي يقود العباد إليه ويجعلهم يقعون في معصية الله ،فيستحقون عذابه ،فكان من المناسب الإيحاء بأن الله مطّلعٌ عليهم ،فيجب أن لا يغفلوا عنه ،ولا يستجيبوا للشيطان ،وليعلموا أن أمرهم بيد الله ،فهو الذي يرحمهم في مواضع الرحمة ،ويعذبهم في مواضع العذاب ،تبعاً لاختلاف مشيئته في ذلك .
وقد استظهر صاحب تفسير الميزان أن قوله:{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} في مقام تعليل الأمر السابق ثانياً ،ويفيد أنه يجب على المؤمنين أن يتحرزوا من إغلاظ القول على غيرهم ،والقضاء بما الله أعلم به من سعادةٍ أو شقاءٍ ،كأن يقولوا: فلان سعيدٌ بمتابعة النبي ،وفلان شقيٌّ ،وفلان من أهل الجنة ،وفلان من أهل النار ...وعليهم أن يرجعوا الأمر ويفوضوه إلى ربهم ،فربكموالخطاب للنبي وغيرهأعلم بكم ،وهو يقضي الأمر فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب{إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} لا يشاء ذلك إلاّ مع الإيمان والعمل الصالح على ما بيّنه في كلامه{أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} ولا يشاء ذلك إلا مع الكفر والفسوق ،وما جعلناك أيها النبي عليهم وكيلاً مفوضاً إليه أمرهم ،حتى تختار لمن تشاء ما تشاء ،فتعطي هذا وتحرم ذاك .
ومن ذلك يظهر أن الترديد في قوله:{إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} باعتبار المشيئة المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان والكفر والعمل الصالح والطالح ،وأن قوله:{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبي ( ص ) والانتساب إلى قبول دينه نظير قوله:{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به} .
إننا نلاحظ أن هذا الاستظهار مبنيٌ على ما استظهره في الآية السابقة ،من توجيه النداء إلى المسلمين في طريقة مخاطبتهم للمشركين .وقد ناقشنا ذلك ،لأنه لا يرتكز على أساس لفظي أو تاريخي ،بل هو مجرد استنتاج ذاتي لا ينسجم مع السياقكما قدمناونلاحظأيضاًأن الأسلوب القرآني قد دأب على إثارة علم الله أمام الإنسان ،وذلك كي يدفعه إلى مراقبته في داخل نفسه ،ليكون ذلك سبيلاً إلى الامتناع عن معصيته ،كما أن الحديث عن الترديد بين الرحمة والعذاب ينطلق في سياق استحقاق العذاب ،الذي قد يكون موضعاً للعفو أو للعقاب ،من خلال مشيئته ،لا في اختلاف الموارد بين الإطاعة والمعصية .وبهذا فإن ما ذكره لا يتناسب مع ذلك .