{وَنَأَى بِجَانِبِهِ}: بَعُدَ بأحد شقيه: اليمين أو اليسار .وهو كناية عن استكباره وتعاظمه .التعلق بالظواهر
ويتناول القرآن طبيعة الإنسان الخاضعة للعوامل المباشرة في حياته ،التي يستسلم من خلالها للانفعالات السريعة المتصلة بالجانب الظاهر من الواقع دون النفاذ إلى العمق ،فيؤدي به ذلك إلى فقدان التوازن في النظرة والموقف .
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ} فأعطيناه الصحة والأمن والمال ،وسهّلنا له أمور الحياة ،فأصبح في المستوى الكبير من الراحة والنعيم والعلوّ في الموقع ...{أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وتولّى عن الله ،وابتعد عنه ،وانقطع عن الاتصال به ،كمن يعرض بوجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقعاً بعيداً عنه ،في تعبيرٍ عن انقطاع الصلة الحميمة به ،أو عن العلو والاستكبار ...فينسى الله ،ويغفل عن عمق الصلة الكونية التي تربط كل شيء من حوله بهتعالىفي ما يتقلّب فيه من النعم ،أو ما يتحرك فيه من الأوضاع ،فليس هناك نعمةٌ إلاَّ من الله خالق كل شيء .ولكن المشكلة في الإنسان ،أنه لا يتعمّق في خصائص الواقع في نظرة تأملٍ وتفكيرٍ ليخلص إلى أنه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ،كما لا يملك أيّ شيء في الحياة إلا بالله ،ما يفرض عليه أن يفكر بالله في كل موقع من مواقع النعمة ،وفي كل مظهر من مظاهر النجاح ،حتى طاقاته الفكرية والجسدية ،التي يحركها في سبيل الحصول على موارد الحياة ،فهي مظهرٌ لقدرة الله في تنظيم وجوده الجسدي والعقلي ،الذي تتحرك أجهزته بقدرة الله ،ولذا فإن عليه أن لا يستسلم للغفلة وللشعور بالذاتية ولشعور القوّة والاستقلال عن الله عندما يواجه مواقع القدرة والنعمة في حياته ،لأن الله الذي خلقها قادرٌ أن يجمّدها في أيّة لحظة .
{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً} وهذه هي النتيجة للارتباط الكلي بالعناصر المادية المحيطة به ،والانشداد إليها كمصدرٍ وحيد للقوّة ،فإذا انفصلت عنه ،وانطلقت الظروف المعاكسة التي تثير في حياته الخوف والجوع والفقر ،فإنه يسقط أمامها ويستسلم لليأس ،وربما تؤدّي به الصدمة إلى الهلاك ،لأنه يجد أبواب الأمل موصدةً أمامه ،ونوافذ الحياة مغلقةً في وجهه .وقد تتحرك الصدمة في اتجاهٍ آخر ،فتهز مشاعره ،وتزيل الضباب عن عينيه ،وتفتح قلبه على الله في قدرته المطلقة على حماية الإنسان من حيث لا يشعر ،ورزقه من حيث لا يحتسب ،فيرجع إليه في ابتهال الخاضع ،وإنابة المنيب ،وروحية العبد الضعيف الذي يستمد القوّة من الله عند ساعة الشدة .
إنه الإنسان الضعيف في حال قوته وضعفه ،فهو الضعيف حال القوة ،لأن نظرته المستغرقة في مظاهر القوة المادية تضعف وضوح الرؤية عنده وإرادة الجدية في حركة الحياة من حوله .فهو ضعيفٌ أمام الواقع القويّ المحيط به ،إذ يشعر أنه أكبر منه ،ويتصاغر حجمه عنده ،وهو الضعيف الذي ينسحق عندما يعيش اليأس والسقوط والانهيار أمام كل عناصر الضعف ،ولا يحاول أن يستجمع عناصر القوّة من حوله ،من خلال التطلع إلى مصدر القوّة للحياة كلها ،وهو الله سبحانه .
وإذا كانت الآية تعرّضت للجانب السلبي في حياته ،أمام الحالتين ،وحاولت أن تُبرز الصورة المشوّهة لحركته ،فإنها لا تريد أن تعقّده أمام ذلك ،بل تريد إثارة إرادة التحدي في شخصيته ،من أجل أن يتحرك نحو مواجهة المستقبل من مواقع الإيمان الذي تتوازن فيه الشخصية في حالتي القوة والضعف ،فلا تطغيها القوة ،ولا يسقطها الضعف ،بل تظل مشدودةً إلى الله ،لتشعر أن القوة منه ،وأن الضعف يمكن أن يتحول إلى قوّة من خلاله .والمقصود بالشر ،هو الحوادث التي تصيب الإنسان بنقص في جسده ،أو في ماله ،أو في عرضه ،أو في نفسه ،كالمرض والفقر والخوف والخسارة والهزيمة والموت ،ولعل التعبير عنها بالشر ،باعتبار انعكاسها السلبيّ على صاحبها .ولكننا إذا نظرنا إلى علاقتها بالواقع الكوني ،فإننا نجد فيها انسجاماً مع الحكمة التي أقام الله الكون عليها ،ما يجعلها خيراً بالنسبة إلى الواقع العام للإنسان ،وإن كانت شراً ذاتياً بالنسبة إلى هذا الشخص بالذّات .