قوله تعالى:{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً} .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه إذا أنعم على الإنسان بالصحة والعافية والرزقأعرض عن ذكر الله وطاعته ،ونأى بجانبه: أي تباعد عن طاعة ربه ؛فلم يمتثل أمره ،ولم يجتنب نهيه .
وقال الزمخشري: أعرض عن ذكر الله كأنه مستغن عنه ،مستبد بنفسه .{وَنَأَى بِجَانِبِهِ} تأكيد للإعراض ؛لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه .والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه ،ويوليه ظهره ،وأراد الاستكبار ،لأن ذلك من عادة المستكبرين .واليؤوس: شديد اليأس ،أي القنوط من رحمة الله .
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه ،كقوله «في سورة هود »{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [ هود: 9-10] ،وقوله في «آخر فصلت »:{لاَّ يَسْأمُ الإنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} [ فصلت:49-51] ،وقوله: «في سورة الروم »{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [ الروم:33] ،وقوله فيها أيضاً:{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [ الروم: 36] ،وقوله «في سورة يونس »:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [ يونس: 12] الآية ،وقوله «في سورة الزمر »:{وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ} [ الزمر: 8] الآية ،وقوله فيها أيضاً:{فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هي فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [ الزمر: 49] .إلى غير ذلك من الآيات .
وقد استثنى الله من هذه الصفات عباده المؤمنين في قوله «في سورة هود »:{إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [ هود: 11] كما تقدم إيضاحه .وقرأ ابن ذكوان «وناء » كجاء ،وهو بمعنى نآى ؛كقولهم: راء في رأى .