العمل صورة الشخصيّة الداخلّية
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} إن العمل هو صورة الشخصية الداخلية للإنسان ،لأنه يعبّر عن العناصر الذاتيه التي تتمثل في الأفكار والمشاعر والأساليب والعلاقات ...وذلك على أساس أن الإنسان إنما يتحرك من موقع العوامل الفكرية والنفسية والعاطفية التي توجّه حياته ،وبذلك اختلفت أعمال الناس تبعاً لاختلاف مكوّناتهم الشخصية ،فإذا كان الشخص ذا شخصية عقلانية هادئةٍ ،فإنه يواجه المشاكل بطريقةٍ موضوعيةٍ بعيدةٍ عن السرعة والارتجال ،أما إذا كان ذا شخصيةٍ انفعاليةٍ ثائرةٍ ،فإنه يعالج القضايا بطريقةٍ انفعاليةٍ سلبيةٍ سريعة التأثر بما حولها .وهكذا نجد الشخصية العالمة ،والجاهلة ،أو الشجاعة والجبانة ،أو الكريمة والبخيلة .
وقفة مع حرية الإرادة
ولكن قد يتساءل البعض ،إذا كان العمل تابعاً للشخصية في مكوّناتها الذاتية ،وفي عناصرها الخاضعة للمؤثرات الداخلية من حيث المزاج ،أو للمؤثرات الخارجية من حيث الظروف والأوضاع ،فأين يكون موقع الاختيار وحرية الإرادة في تصرفات الإنسان ،ما دام خاضعاً لمزاجه الانفعالي أو العقلاني ،أو لشخصيته العالمة أو الجاهلة ،وما إلى ذلك ؟!
والجواب عن ذلك: أن المؤثرات الداخلية أو الخارجية التي تمثل عناصر الشخصية ،قد تثير في حياة الإنسان الأجواء السلبية أو الإيجابية المتصلة بها ،ولكنها لا تفرض نفسها عليه بحيث تلغي إرادته وتشلّ حركته ،لأن هناك مساحةً واسعةً بين مفهوم الشخصية في الداخل من خلال المزاج ،أو في الخارج من خلال الظروف ،وبين مفهوم العنصر العقلي ،الذي يدقّق ويحاسب ويحاكم ويصحّح ويؤكد الموقف ،فقد جعل الله للعقل قوّةً مهيمنةً على المؤثرات السلبية في حياة الإنسان ،وأردفه بالوحي الذي يفصّل له الأمور وينظِّم له الخطوط ،وبذلك يبقى هناك مجالٌ للتغيير ،وساحةٌ للإرادة الحرّة التي تضغط على المزاج بعقلٍ مفتوحٍ .
وبهذا يبطل السؤال الذي يقول: ما جدوى الرسالات التي توجَّه إلى الناس ،إذا كان كل إنسان يعمل على شاكلته التي خلق عليها ،أو التي اكتسبها من خلال ظروفه الموضوعية ؟!
إن المسألة لا تتعلق بحالةٍ ضاغطةٍ لا تترك مجالاً للاختيار أو للتغيير ،بل بمناخٍ يثير في النفس عوامل الانحراف ،ويحرّكها في اتجاه المعصية ،في الوقت الذي يمكن للمناخ الآخر القادم من العقل أو من الوحي ،أن يحوّل الخطوات في اتجاهٍ آخر ،ويضعف العوامل السلبية ،ويقوِّيبدلاً منهاالعوامل الإيجابية في خط الاستقامة والطاعة ..
وهذا ما قرره الله في الآية الكريمة:{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [ الرعد: 11] التي أكدت على قدرة الإنسان على تغيير نفسه ،بتغيير الصورة الفكرية والشعورية الداخلية ،كوسيلةٍ من وسائل التغيير العملي على صعيد الواقع .
وهذا ما يؤكده الواقع في ما نراه من الأشخاص الذين يولدون في بيئةٍ شريرةٍ تضغط على طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في الحياة ونوازعهم وتطلّعاتهم في حركة الواقع من حولهم ...ولكنهم يتمرّدون على هذا الواقع في أنفسهم ،على أساس موقف تأمّلٍ يوحي بالصفاء ،أو موقف فكرٍ يقود نحو التحوُّل والتغيير ،أو كلمة وحيٍ سمعوها ،ففتحت لهم آفاقاً جديدةً من الحياة ،أو تجربةٍ عاشوها فحرّكت في ذاتهم إرادة التغيير .
إن في نفس كل إنسانٍ شخصيةً منفتحةً طاهرةً ،ترقد في أعماق الأعماق ،حيث تعيش ينابيع الفطرة ومواقع الصفاء في الروح ،وربما تطغى عليها شخصيةٌ أخرى تتحرك في أجواء الغريزة وفي نوازع الحس ،فتنطلق بالأعمال السلبيّة ،كما تنطلق الشخصية الفطرية بالأعمال الإيجابية ،وقد تتغير كل منهما في اتجاه آخر ،يغطّي هذا الجانب ليبرز مكانه جانبٌ آخر ،ما يجعل للعقل وللوحي وللتجربة الواعية دوراً كبيراً في عملية التغيير .وهكذا يعمل كل إنسان على صورته الداخلية ووفق شاكلته الشخصية ،ولكن الله مطّلعٌ على خفايا الأمور ،في ما يتحرك به الإنسان من نوازع وأفكار وشهوات مما يخفى أمره على الناس ،أو مما تلتبس فيه النظرة إلى الواقع{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} لأن الله لا ينظر إلى مواقع الصورة في الخارج ،بل إلى مواقعها في الداخل ،ما يحدّد طبيعة التفاضل في الهدى ،أو طبيعة الضلال والهدى .