الآية الثّانية تخاطب الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتقول: ( قل كلّ يعمل على شاكلته ) .فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء مِن آيات القرآن الكريم ،والظالمونلا يستفيدون مِن القرآن سوى مزيد مِن الخسران ،أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حالِ النعمة .ويصابون باليأس في حالِ ظهور المشاكل ...هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم ،هذه الأمزجة التي تتغيّر وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإِنسان نفسه .
وفي هذه الأحوال جميعاً فإِنَّ هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع وخاصّة بالأشخاص المهتدين: ( فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) .
بحوث
1الغرور واليأس
يتداول على ألسنتنا أنَّ فلاناً أصبح بعيداً عن الله ،أو أنَّهُ نسي الله بعد أن تحسنت أُموره .ورأينا أنَّ أمثال هؤلاء الأشخاص الذين نسوا الله كيف يصابون باليأس الذلة والهلع عندما تنزل بهم أبسط الشدائد ،بحيث لا نكاد نصدِّق بأنّهم سبق وأن كانوا على غير هذه الحال !
أجل ،هكذا حال هؤلاء الجماعة مِن ضيقي التفكير وضعيفي الإِيمان ،وعلى العكس من ذلك حال أولياء الله ،حيث تكون نفوسهم واسعة وأرواحهم وضاءة نيِّرة إِزاء المؤثرات التي تحيط بهم ولو بلغت في عتوها وضغطها مبلغاً شديداً ،إِنّهم كالجبال في مقابل الصعوبات والشدائد ،إِذا وهبتهم الدنيا فلا يُؤثر ذلك فيهم ،وإِذا أخذت مِنهم العالم أجمع لا يتأثرون .
والعجيب في الأمر أنَّ هؤلاء القوم الذين يخسرون أنفسهم والذين تذكرهم السور القرآنية في آيات مُتعدِّدة ( مِثل يونسآية 12 ،لقمانآية 32 ،الفجرآية 14 ،15 ،فصلتالآية 48 ،49 ) هم أنفسهم يعودون إلى الله ،ويستجيبون لنداء الفطرة عندما تنزل بهم النوازل وتقع بساحتهم الشدائد ،ولكنّهم عندما تهدأ أمواج الحوادث والضواغط يتغيرون ،أو في الواقع يعودون إلى ما كانوا عليه سابقاً ويكون مِثلهم كمن لم يسمع بالله الذي خلقه وأنقذه !
إِنَّ العلاج الوحيد لهذا المرض هو رفع مستوى الفكر في ظل العلم والإِيمان ،وترك العبودية لما هو دون الله وسواه ،وفك الارتباط مع الشهوة والمادة ،والعيش في إِطار مِن القناعة والزهد البنّاء .
وممّا ذكرنا تظهر الإِجابة على سؤال ،وهو: إِنَّ الآيات التي نبحثها تصف حال مثل هؤلاء الأشخاص عند الصعوبات والشدائد ب «يَؤوس » في حين أنَّ آيات أُخرى مِثل الآية ( 65 ) مِن سورة العنكبوت تصفهم بأنّهم ( مخلصين لهُ الدين ) وهي دلالة على غاية التوَّجه نحو الخالق عز وجل ؟
في الواقع ليس ثمّة مِن تضاد بين هاتين الحالتين ،بل إِنَّ إِحداهما هي بمثابة مقدمة للأُخرى ،فهؤلاء الأشخاص عندما تصادفهم المشكلات ييأسون مِن الحياة ،وهذا اليأس يكون سبباً لأنّ تزول الحجب عن فطرتهم ويلتفتون لخالقهم العظيم .
إِنَّ هذا التوّجه الاضطراري إلى الخالق عز وجلطبعاًليس فخراً لأمثال هؤلاء وليس دليلا على يقظتهم ،لأنّهم بمجرّد انصراف المشاكل عنهم يعودون إلى حالتهم السابقة .
أمّا أولياء الحق وعباد الله المخلصون الحقيقيون فلا ييأسون عندما يقعون في المشاكل والمحن ،بل تزيدهم الصعوبات استقامة وصلابة على طريق الهدى ،وبسبب اعتمادهم على الله وعلى أنفسهم فإِنّهم يتمتعون بقوّة لمواجهة المشاكل ولا معنى لليأس في وجودهم .
إِنَّ هؤلاء ليسوا على صلة بالخالق في أوقات المشكلات وحسب ،وإِنّما في اتصال دائم معهُ في كل الحالات إِذ يستمدون العون منهُ تعالى ،وتكون قلوبهم منيرة برحمته وهدايته .
2ما معني ( شاكلة ) ؟
«شاكلة » في الأصل مُشتقة مِن ( شكل ) وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان .و( شكال ) تُقال لنفس الزمام ؛وبما أنَّ طبائع وعادات كل إِنسان تقيِّدهُ بصفات معينة لذا يقال لذلك «شاكلة » .أمّا كلمة «إِشكال » فتقال للاستفسار والسؤال وسائر الأُمور التي تحدِّد الإِنسان نوعاً ما{[2240]} .
لهذا فإِنَّ مفهوم الشاكلة لا يختص بالطبيعة الإِنسانية ،لذلك ذكر العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان لهذه الكلمة مَعَنيين ،هما: الطبيعة والخلقة ،ثمّ الطريقة والمذهب والسُنَّة ،على اعتبار أنَّ كل واحدة مِن هذه الأُمور تحدِّد الإِنسان مِن حيث العمل .
ومِن هنا يتّضح خطأ أُولئك الذين اعتبروا الآية أعلاه دليلا على إِلزامية الصفات الذاتية للإِنسان بشكل يخرج عن إِرادته ،وهو دليلهم على عقيدة الجبر ،وإِذ أنكروا قيمة التربية والتزكية .
هذا النوع مِن التفكير الذي يخضع في أسبابه إلى عوامل سياسية واجتماعية ونفسيةوالتي ذكرناها في بحوثنا عن الجبر والاختيارلهُ هيمنة على ثقافة وأدب الكثير مِن المجتمعات والنظُم ،حيث تستخدم هذه الثقافة لتبرير النواقص .إِنَّ هذه الثقافة تعتبر مِن أخطر الاعتقادات التي يمكن أن تجر المجتمع سنين بل قرون إلى الذلة والتأخَّر .
بناءً على ما ذكرنا نعتقد أن عقيدة الجبر هي دوماً ذريعة للتسط الاستعماري ،لكي تبقى القوّة المسيطرة في ظل ثقافة الجبر بمنأى عن ردود الفعل المقاومة للسيطرة والتي يمكن أن تنطلق مِن صفوف المسحوقين المستضعفين .
والتعبير المشهور هُنا ،يوضح هذه الحقيقة بشكل دقيق ،إِذ يقول: «الجبر والتشبيه أمويان والعدل والتوحيد علويان » .
وخلاصة القول هنا: إنَّ الشاكلة لا تعني أبداً الطبيعة الذاتية ،بل هي تُطلق على كلّ عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإِنسان اتجاهاً معيناً .
لذا فإِنَّ العادات والصفات التي يكتسبها الإِنسان بتكرار الأعمال اختيارياً وإِرادياً ،وكذلك الاعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الاستدلال أو التعصب لرأي معين يُطلق عليها كُلّها كلمة «شاكلة » .
وعادةً ما تكون الملكات الإِنسانية لها صفة اختيارية ،لأنَّ الإِنسان عندما يُكرِّر عملا ما ففي البداية يُقالُ لهُ ( حالة ) ثمّ تتحوَّل الحالة إلى ( عادة ) والعادة إلى ( مَلَكَة ) وهذه الملكات نفسها تعطي شكلا معيناً لأعمال الإِنسان وتحدِّد خطَّهُ في الحياة ،وهي عادةً ما تظهر بفعل العوامل الاختيارية والإِرادية .
وفي بعض الرّوايات تمَّ تفسير «الشاكلة » بأنّها النيّة ،فقد ورد في أصول الكافي عن الإِمام الصّادق( عليه السلام ) ،قوله: «النّية أفضل مِن العمل ،ألا وإِنَّ النّية هي العمل ،ثمّ تلا قوله عزَّ وجلّ: ( قل كلّ يعمل على شاكلته ) ،يعني على نيّته »{[2241]} .
هذا التّفسير ينطوي على ملاحظة لطيفة ،وهي أنَّ الإِنسان والتي تنبع مِن اعتقاداته تغطي شكلا لعمله ،وعادة فإِنَّ النيّة هي نوع مِن الشاكلة ،بمعنى الأمر المقيِّد .لذا تفسَّر النيّة أحياناً بأنّها نفس العمل .وفي أحيان أُخرى بأنّها أفضل من العمل ،لأنَّهُفي كل الأحواليكون خط العمل واتجاههُ ناتجاً عن خط النيّة واتجاهها .
وفي رواية «مَن لا يحضره الفقيه » عن صالح بن الحكم ،قال: سُئِلَ الصّادق( عليه السلام ) عن الصلاة في البيع والكنائس ،فقال( عليه السلام ): «صلِّ فيها » قُلت: أصلي فيها وإِن كانوا يُصلون فيها ؟قال: «نعم .أمّا تقرأ القرآن »: ( قل كلٌّ يعمل على شاكلته فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) صلَّ على القبلة ودعهم »{[2242]} .