{رَضِيّاً}: مرضياً عندك .
{يرثني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ليكون امتداداً للخط الرسالي الذي يدعو إلى الله ،ويعمل له ،ويجاهد في سبيله ،ولتستمر به الرسالة في روحه وفكره وعمله ....
ما المراد بالإرث ؟
وقد أثيرت في هذه الفقرة مسألة إرث المال وهل هو المراد بكلمة الإرث ،أو أن المقصود به إرث العلم والرسالة ،لأن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ،بل ورّثوا شيئاً من علومهم ؟وربما اتصل هذا الحديث بمسألة إرث السيدة العظيمة فاطمة الزهراء( ع ) فدكاً من أبيها محمد رسول الله( ص ) ،ومدى صحة الحديث الذي واجهها به أبو بكر عن رسول الله( ص ): «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ،ما تركناه صدقة » .وغير ذلك من التفاصيل .
وقد أشرنافي ما قدّمنا من حديثأن المال لم يكن هو الأساس في الإرث في تفكير زكريا ،لا من جهة أن الأنبياء لا يوِّرثون ،ولا من جهة مشكلة من يملك المال بعده ،بل إن خلوّ الساحة من بعده من شخص يحمل الرسالة هو ما يجعل القضية في دائرة الخطورة في ما يتطلع إليه زكريا من مستقبل الرسالة ،لأن الذين يأتون من بعده ويرثون موقعه ،ليسوا في مستوى المسؤولية ليترك الأمر لهم في ما يقومون به في حركة الواقع .ولعل الحديث عن إرث آل يعقوب ،الذي هو خط الرسالة ،يؤكد هذا المعنى .
ولكن ربما يلاحظ على ما ذكرناه ،أن كلمة يرثني ظاهرةٌبحسب طبيعة اللفظ في معناه الحقيقيفي إرث المال الذي لم يكن ملحوظاً كهمٍّ من هموم زكريا في دعائه هذا ؛بل كان وارداً على سبيل الإشارة إلى الولد في خصائصه العائلية من حيث أنه وارث لأبيه ،لأن ذلك هو الذي يعين كلمة{وَلِيّاً} بالولد الصلبي .ومما يؤيد ذلك أنه أهمل ذكر الإرث في آية سورة آل عمران في قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [ آل عمران:38] ،حيث اقتصر على كلمة{ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ولم يلحقها بكلمة الإرث ،لأنها تختزن في داخل معناها ذلك ،لأن الذرية وارثة لأبيها .وربما كان ذكر آل يعقوب باعتباره من هذه العائلة ،فكأنه يثير المسألة على أساس امتداد النسب الذي يتحقق بالولد الذي يرث أباه وعائلته .
وفي ضوء ذلك يمكن أن نسجل ملاحظة على مسألة وراثة النبوة أو وراثة العلم ،إذ هي ليست من خصوصيات الشخص في طموحاته التي يتطلبها من خلال طلبه الولد ،لأن النبي أو العالِم عندما يفكر بامتداد النبوة أو العلم من بعده ،لا يفكر بالجانب الذاتي في شخصه باعتبار أن إخلاصه للنبوة أو للعلم يؤدي به إلى أن يطلب إرسال ابنه نبياً من بعده أو لتهيئة عالم ،تماماً كما هو مفاد الحديث الشريف: «العلماء ورثة الأنبياء » ما يوحي بأن القضية ليست قضية شخصية فيهم ،بل هي مسألة امتداد العلم الذي بلغوه .أما احتمال أن يكون زكريا قد طلب من ربه امتداد النبوة أو العلم في عقبه ،فإن سياق الآيات لا ينسجم معه ،لأن الفكرة قد انطلقت من رؤيته مريم في صلاحها وعبادتها وتقواها ،الأمر الذي جعله يفكر بالولد الصالح الطيب الذي عبّر عنه بالذرية الطيبة ،أو الرضيّ ،إذ لا معنى للحديث عن صفة الرضي إذا كان المطلوب في الكلمة السابقة{وَلِيّاً} النبي أو العالم ،لأن مسألة الرضي هي مسألة تختزنها الصفتان ،فلا معنى لاعتبارها طلباً آخر .
ومما يؤيد هذه الملاحظة في إرادة الوارث المالي من حيث هو كناية عن الولد ،أن هذه الآية وردت في احتجاج السيدة فاطمة الزهراء( ع ) على أبي بكر عندما منعها إرثها في فدك على أساس «أن الأنبياء لا يورثون » ،وذلك في ما ذكره صاحب الاحتجاج ،قال: روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم السلام ،أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له: «يا بن أبي قحافة ،أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ؟لقد جئت شيئاً فرياً .أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ؟إذ يقول:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} ،وقال: في ما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا:{فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} .وجاء في الميزان نقلاً عن الدر المنثور عن الفارابي عن ابن عباس قال: «كان زكريا لا يولد ،فسأل ربه فقال:{فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً* يرثني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: يرثني مالي ،ويرث من آل يعقوب النبوة » .
وربما يخطر في البال احتمال أن يكون المرادفي وجدان زكرياأن يرثه في المال وفي خصائصه الأخرى التي يمنحه الله إياها ،فكأنه يقول هب لي ولداً يمثل الامتداد لي في خصوصياتي المالية التي تنتقل إليه بفعل النسب ،وفي خصوصياتي النبوية أو العلمية التي تتفضل بها عليه كما تفضلت بها عليّ .ولعلّ استجابة الله لزكريا بولادة يحيى كانت تحقيقاً لرغبته في الولد الذي يرثه ذاتياً ويرث النبوة ،حيث كانت النبوة إرثاً في الشكل مع كونهافي الواقعتفضلاً من الله .والله العالم .
ولا بد من الإشارة إلى الحديث الذي رواه الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبدالله جعفر الصادق( ع ) أنه قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء ،وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً » .
لقد استدل البعض بهذا الحديث على تأكيد ما ذكره أبو بكر في روايته عن رسول الله( ص ): نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ،ما تركناه صدقة .
ويمكن لنا أن نناقش الأمر بأن الإمام جعفر الصادق( ع ) ،لم يرد أن ينفي شرعية توريث الأنبياء المال الذي كانوا يملكونه ،بل إنه كان في مقام الحديث عن أن الرصيد الأساس الذي يتركه الأنبياء لمن بعدهم هو الأحاديث الرسالية المتضمنة لكل مفردات الرسالة ،لأن قضية جمع المال لم تكن همّاً كبيراً عندهم ،ليجتمع لديهم منه الكثير ليكون هو الإرث الأبرز بعدهم .
وبعبارة أخرى ،إن الإمام كانعلى نحو المبالغةيتحدث عن نفي واقع الإرث لدى الأنبياء بحسب حالتهم المادية ،ولم يتحدث عن نفي الشرعية ،فكأنه قال أنهم لم يتركوا مالاً لأنهم لا يملكونه ،لانشغالهم بالرسالة ،ولذلك لم يورثوا درهماً ولا ديناراً ،لا أنهم تركوا مالاً ولم يورّثوه لمن بعدهم من ورثتهم لعدم شرعية الإرث .والله العالم .
{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} مرضياً عندك من خلال إيمانه وعمله الصالح ،وجهاده في سبيلك ،ودعوته إليك ،لتكون حياته في مستوى الرضا لديك .فهذا ممّن يمكن أن يسدّ الفراغ ،ويحمل العبء ،ويتحمل مسؤولية الساحة كلها كما تحب وترضى .